فی هذه الآیات بیان للعقوبات المؤلمة لمن أنکر القرآن والرسالة، وکذب النّبی(صلى الله علیه وآله) وهو ما أشارت إلیه الآیات السابقة فیقول اللّه تعالى: (ساُصلیه سقر).
«سقر»: فی الأصل من «سقر» على وزن فقر، بمعنى التغیر والذوبان من أثر حرارة الشمس، هو من أحد أسماء جهنم، کثیر ما ذکر فی القرآن، واختیار هذا الاسم یشیر إلى العذاب المهول لجهنّم الذی یلتهم أهلها، وقیل هی درک من درکاتها المهولة، ثمّ یبیّن عظمة وشدّة عذاب النّار فیقول: (وما أدراک ما سقر).
أی إنّ العذاب یکون شدیداً إلى حدّ یخرج عن دائرة التصور، ولا یخطر على بال أحد، کما هو الحال فی عدم إدراک عظمة النعم الإلهیة فی الجنان.
(لا تبقی ولا تذر).
قد تکون هذه الآیة إشارة إلى أنّ نار جهنّم بخلاف نار الدنیا التی ربّما ترکت بعض ما ألقی فیها ولم تحرقه، وإذا نالت إنساناً مثلاً نالت جسمه وصفاته الجسمیة وتبقى روحه وصفاته الروحیة فی أمان منها، وأمّا «سقر» فلا تدع أحداً ممن ألقی فیها إلاّ نالته واحتوئه بجمیع وجوده، فهی نار شاملة تستوعب جمیع من اُلقی فیها، وقیل: إنّ المعنى لا یموتون فیها ولا یحیون، أی یبقون بین الموت والحیاة، کما جاء فی الآیة 13 من سورة الأعلى: (لا یموت فیها ولا یحیى).
أو أنّها لا تبقی على جسد شیئاً من العظام أو اللحم، فیتّضح أنّ مفهوم الآیة أنّها لا
تحرقهم تماماً، لأنّ هذا المعنى لا یتفق والآیة 56 من سورة النساء حیث یقول تعالى: (کلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غیرها لیذوقوا العذاب).
ثمّ ینتقل إلى بیان وصف آخر للنّار المحرقة فیضیف: (لواحة للبشر)(1).
إنّها تجعل الوجه مظلماً أسود أشدّ سواداً من اللیل.
«بشر»: جمع بشرة، وتعنی الجلد الظاهر للجسد.
«لوّاحة»: من مادة (لوح) وتعنی أحیاناً الظاهر، وأحیاناً بمعنى التغییر، ویکون المعنى بمقتضى التّفسیر الأوّل: (أنّ جهنم ظاهرة للعیان).
کما جاء فی الآیة 36 من سورة النّازعات: (وبرّزت الجحیم لمن یرى) وبمقتضى التّفسیر الثّانی یکون المعنى: أنّها تغیر لون الجلود.
وفی آخر آیة من آیات مورد البحث یقول تعالى: (علیها تسعة عشر).(2)
إنّهم لیسوا مأمورین بالرحمة والشفقة، بل إنّهم مأمورین بالعذاب والغلظة، وأمّا الآیة الاُخرى التی تلیها فإنّها تشیر إلى أنّ هذا العدد هم ملائکة العذاب، وقیل إنّها تشیر إلى تسع عشرة مجموعة من الملائکة، ولیس تسعة عشر نفراً، ودلیل ذلک قوله تعالى: (وما یعلم جنود ربّک إلاّ هو).(3)
وأمّا عن سبب اختیار هذا العدد من ملائکة العذاب، فلا یدری أحد عن ذلک شیئاً، ولکن احتمل البعض أنّ المراد من ذلک هو لکونُ أکبر عدد للآحاد وأقل عدد للعشرات، وقیل لکون اُصول الأخلاق الرذیلة ترجع إلى 19 أصل ظاهرة وباطنة،
فلذا تکون کلّ رذیلة من الرّذائل عاملاً للعذاب الإلهی، وإنّ طبقات جهنّم هی تسع عشرة طبقة أی بعددها، ولکل طبقة ملک أو مجموعة من الملائکة مأمورین بالعذاب.
ومن المؤکّد أنّ الاُمور المراتبطة بالقیامة والجنان والجحیم وجزئیاتها وخصوصیاتها غیر واضحة لدینا تمام الوضوح، ونحن نعیش فی هذا المحیط المحدود، والذی نعرفه إنّما یتعلق بکلیاتها، لذا نجد فی الرّوایات أنّ لهذه الملائکة قدرات عظیمة بحیث یمکن لکل ملک أن یقذف قبیلة کبیرة فی جهنّم بسهولة، ومن هنا یتّضح ضعف وعجز أفکار اناس من قبیل أبی جهل، إذ أنّه لما سمع بالآیة جاء مستهزئاً إلى قریش، وقال: ثکلتکم اُمهاتکم ألم تسمعوا ما یقوله ابن أبی کبشة (یعنی بذلک النّبی(صلى الله علیه وآله))(4) یقول إنّ خزنة النّار تسعة عشر وأنتم الدّهم أیعجز کل عشرة منکم أن یبطشوا برجل منهم؟!
فقال أبو الأسد الجمحی وکان شدید البطش: أنا أکفیکم سبعة عشر فاکفونی أنتم اثنین(5)لقد أراد السفهاء أن یطفئوا بهذه السخریة نور الحق، وأن یتخلصوا بذلک من الفناء المحتم.