قلنا فی تفسیر الآیات السابقة أنّ (نفخ الصور) یحدث مرّتین.
الاُولى: عندما یأمر تعالى بنهایة العالم وموت الأحیاء وتلاشی الوجود.
والثانیة: بحدوث العالم الجدید، عالم الآخرة حیث البعث والنشور...، وکما ذکرنا فإنّ بدایة الآیات تخبرنا عن النفخة الاُولى، ولم تستعرض تفاصیل النفخة الثانیة.
واستمراراً للحدیث فی هذا الصدد، وخصوصیات العالم الجدید الذی سیکون عند النفخة الثانیة، تحدّثنا هذه الآیات عن شیء من ذلک حیث یقول تعالى: (یومئذ تعرضون لا تخفى منکم خافیة).
«تعرضون» من مادّة (عرض) بمعنى عرض شیء معیّن، بضاعة أو غیرها.
وممّا لا شکّ فیه أنّ جمیع ما فی الوجود ـ بشراً وغیره ـ هو بین یدی اللّه سبحانه، سواء فی هذه الدنیا أو فی عالم الآخرة، إلاّ أنّ هذا الأمر یظهر ویتّضح بصورة أشدّ فی یوم القیامة، کما فی مسألة حاکمیة الله المطلقة والدائمة على عالم الوجود، حیث تتّضح فی یوم القیامة أکثر من أی وقت آخر.
إنّ جملة: (تخفى منکم خافیة) یمکن أن تکون إشارة إلى أنّ الأسرار الخاصّة بالإنسان
وما یحاول إخفاءه یتحوّل فی ذلک الیوم إلى حالة من الظهور والوضوح کما یقول تعالى: (یوم تبلى السرائر).(1)
فی ذلک الیوم لن یقتصر الوضوح والظهور على أعمال البشر الخفیّة فحسب، بل على صفات وروحیات وأخلاقیات ونیّات الجمیع فإنّها هی الاُخرى تبرز وتظهر، وهذا أمر عظیم جدّاً، بل إنّه أعظم من إنفجار الأجرام السماویة وتلاشی الجبال ـ کما یقول البعض ـ حیث الفضیحة الکبرى للطالحین، والعزّة والرفعة للمؤمنین بشکل لا نظیر له، یوم یکون الإنسان عریاناً لیس من حیث الجسم فقط، بل أعماله وأسراره الخفیة تکون على رؤوس الأشهاد، نعم لا یبقى أمر مخفی من وجودنا وکیاننا أجمع فی ذلک الیوم العظیم.
ویمکن أن یکون المراد هو الإشارة للإحاطة العلمیة لله تعالى بجمیع المخلوقات، ولکن التّفسیر الأوّل أنسب.
لذا یقول سبحانه بعد ذلک: (فأمّا من اُوتی کتابه بیمینه فیقول هاؤم اقرأوا کتابیه)(2).
إنّ الفرحة تملؤه بصورة لا مثیل لها، حتى یکاد یطیر من شدّة فرحته، حیث إنّ کلّ ذرّة من ذرّات وجوده تغمرها الغبطة والسعادة والشکر لله سبحانه على هذه النعم والتوفیق والهدایة التی منّ الله بها علیه ویصرخ (الحمد لله).
ثمّ یعلن بافتخار عظیم فیقول: (إنّی ظننت أنّی ملاق حسابیه)(3).
«ظنّ» فی مثل هذه الموارد تکون بمعنى (الیقین) إنّه یرید أن یقول: إنّ ما تفضّل به الله تعالى علیّ کان بسبب إیمانی بهذا الیوم، والحقیقة أنّ الإیمان بالحساب والکتاب یمنح الإنسان روح التقوى، والتعهّد والإحساس بالمسؤولیة، وهذا من أهمّ عوامل تربیة الإنسان.
ثمّ یبیّن الله تعالى فی الآیات اللاحقة جانباً من جزاء وأجر هؤلاء الأشخاص حیث یقول: (فهو فی عیشة راضیة)(4).
وبالرغم من أنّ الجملة أعلاه تجسّد کلّ ما یستحقّ أن یقال فی هذا الموضوع، إلاّ أنّه سبحانه یضیف للتوضیح الأکثر: (فی جنّة عالیة).
إنّ الجنّة تکون عالیة ورفیعة بشکل لم یر أحد مثلها قطّ، ولم یسمع بها، ولم یتصور مثلها.
(قطوفها دانیة)(5).
حیث لا جهد مکلّف ولا مشقّة ولا صعوبة فی قطف الثمار، ولا عائق یحول من الإقتراب للأشجار المحمّلة بالثمار، وجمیع هذه النعم فی متناول الأیدی بدون إستثناء.
وفی آخر آیة ـ مورد البحث ـ یوجّه الباریء عزّوجلّ خطابه المملوء بالحبّ والمودّة والإعتزاز إلى أهل الجنّة بقوله: (کلوا واشربوا هنیئاً بما أسلفتم فی الأیّام الخالیة).
وهکذا کانت هذه النعمة العظیمة التی منحها الله لهؤلاء المتقین جزاء أعمالهم الصالحة التی ادّخروها لیوم کان فیه الحساب الحقّ، وأرسلوها سلفاً أمامهم، وإنّ الأعمال الخیّرة والمحدودة هی التی أثمرت هذه الثمار الکبیرة حیث ظلّ الرحمة الإلهیّة واللطف الربّانی.