تعقیباً على الموضوع الذی جاء فی الرّوایات السابقة حول ترک (النجوى) فی المجالس، یتحدّث القرآن عن أدب آخر من آداب المجالس حیث یقول سبحانه: (یاأیّها الذین آمنوا إذا قیل لکم تفسّحوا فی المجالس فافسحو(1) یفسح الله لکم).
«تفسّحوا» من مادّة (فسح) على وزن قفل بمعنى المکان الواسع، وبناءً على هذا، فإنّ التفسّح بمعنى التوسّع، وهذه واحدة من آداب المجالس، فحین یدخل شخص إلى المجلس فإنّ المرجو من الحاضرین أن یجلسوا بصورة یفسحوا بها مجالا له، کی لا یبقى فی حیرة وخجل، وهذا الأدب أحد عوامل تقویة أواصر المحبّة والودّ على عکس النجوى التی اُشیر إلیها فی الآیات السابقة، والتی هی أحد عوامل التفرقة والشحناء، وإثارة الحساسیات والعداوة.
والشیء الملاحظ أنّ القرآن الکریم، الذی هو بمثابة دستور لجمیع المسلمین لم یهمل حتى هذه المسائل الجزئیة الأخلاقیة فی الحیاة الاجتماعیة للمسلمین، بل أشار إلیها بما یناسبها ضمن التعلیمات الأساسیة، حتى لا یظنّ المسلمون أنّه یکفیهم الالتزام بالمبادیء الکلیّة.
جملة (یفسح الله لکم) فسّرها بعض المفسّرین بتوسّع المجالس فی الجنّة، وهو ثواب یعطیه الله تعالى للأشخاص الذین یراعون هذه الآداب فی عالم الدنیا، ویلتزمون بها، وبلحاظ کون الآیة مطلقة ولیس فیها قید أو شرط فإنّ لها مفهوماً واسعاً، وتشمل کلّ سعة إلهیّة، سواء کانت فی الجنّة أو فی الدنیا أو فی الروح والفکر أو فی العمر والحیاة، أو فی المال والرزق، ولا عجب من فضل الله تعالى أن یجازی على هذا العمل الصغیر بمثل هذا الأجر الکبیر، لأنّ الأجر بقدر کرمه ولطفه لا بقدر أعمالنا.
وبما أنّ المجالس تکون مزدحمة أحیاناً بحیث إنّه یتعذّر الدخول إلى المجلس فی حالة عدم التفسّح أو القیام، وإذا وجد مکان فإنّه غیر متناسب مع مقام القادمین واستمراراً لهذا البحث یقول تعالى: (وإذا قیل انشزوا فانشزو)(2) أی إذا قیل لکم قوموا فقوموا.
ولا ینبغی أن تضجروا أو تسأموا من الوقوف، لأنّ القادمین أحیاناً یکونون أحوج إلى الجلوس من الجالسین فی المجلس، وذلک لشدّة التعب أو الکهولة أو للإحترام الخاصّ لهم، وأسباب اُخرى.
وهنا یجب أن یؤثّر الحاضرون على أنفسهم ویتقیّدوا بهذا الأدب الإسلامی، کما مرّ بنا فی سبب نزول الآیة، حیث کان رسول الله(صلى الله علیه وآله) قد أمر المجموعة التی کانت جالسة بالقرب منه بالتفسّح للقادمین الجدد لأنّهم کانوا من مجاهدی بدر، وأفضل من الآخرین من ناحیة العلم والفضیلة.
کما فسّر بعض المفسّرین (انشزو) بمعناها المطلق وبمفهوم أوسع، حیث تشمل أیضاً القیام للجهاد والصلاة وأعمال الخیر الاُخرى، إلاّ أنّه من خلال التمّعن والتدقیق فی الجملة السابقة لها والتی فیها قید «فی المجالس»، فالظاهر أنّ هذه الآیة مقیّدة بهذا القید، فیمتنع إطلاقها بسبب وجود القرینة.
ثمّ یتطرّق سبحانه إلى الجزاء والأجر الذی یکون من نصیب المؤمنین إذا التزموا بالأمر الإلهی، حیث یقول عزّوجلّ: (یرفع الله الذین آمنوا منکم والذین اُوتوا العلم درجات)(3).
وذلک إشارة إلى أنّ الرّسول(صلى الله علیه وآله) إذا أمر البعض بالقیام وإعطاء أماکنهم للقادمین، فإنّه لهدف إلهی مقدّس، وإحتراماً للسابقین فی العلم والإیمان.
والتعبیر بـ (درجات) بصورة نکرة وبصیغة الجمع، إشارة إلى الدرجات العظیمة والعالیة التی یعطیها الله لمثل هؤلاء الأشخاص، الذین یتمیّزون بالعلم والإیمان معاً، أو فی الحقیقة أنّ الأشخاص الذین یتفسّحون للقادمین لهم درجة، واُولئک الذین یؤثرون ویعطون أماکنهم ویتّصفون بالعلم والتقوى لهم درجات أعلى.
وبما أنّ البعض یؤدّی هذه التعلیمات ویلتزم بهذه الآداب عن طیب نفس ورغبة، والآخرون یؤدّونها عن کراهیة أو للریاء، والتظاهر... فیضیف تعالى فی نهایة الآیة: (والله بما تعملون خبیر).