فی قسم من الآیات السابقة کان البحث حول موضوع النجوى، وفی الآیات مورد البحث استمراراً وتکملة لهذا المطلب.
یقول سبحانه: (یاأیّها الذین آمنوا إذا ناجیتم الرّسول فقدّموا بین یدی نجواکم صدقة)وکما ذکرنا فی سبب نزول هذه الآیات، فإنّ بعض الناس وخاصّة الأغنیاء منهم کانوا یزاحمون الرّسول(صلى الله علیه وآله) باستمرار ویتناجون معه... ولمّا کان هذا العمل یسبّب إزعاجاً للرسول بالإضافة إلى کونه هدراً لوقته الثمین، وفیه ما یشعر بالخصوصیة لهؤلاء الذین یناجونه بدون مبرّر لذا نزل الحکم أعلاه، وکان امتحاناً لهم، ومساعدة للفقراء، ووسیلة مؤثّرة للحدّ من مضایقة هؤلاء لرسول الله (صلى الله علیه وآله).
ثمّ یضیف بقوله تعالى: (ذلک خیر لکم وأطهر).
أمّا کون الصدقة «خیر» فإنّها کانت للأغنیاء موضع أجر وللفقراء مورد مساعدة، وأمّا کونها (أطهر) فلأنّها تغسل قلوب الأغنیاء من حبّ المال، وقلوب الفقراء من الغلّ والحقد، لأنّه عندما تکون النجوى مقرونة بالصدقة تکون دائرتها أضیق ممّا کانت علیه فی الحالة المجانیة، وبالتالی فإنّها نوع من التصحیح والتهذیب الفکری والإجتماعی للمسلمین.
ولکن لو کان التصدّق قبل النجوى واجباً على الجمیع، فإنّ الفقراء عندئذ سیحرمون من طرح المسائل المهمّة کاحتیاجاتهم ومشاکلهم أمام الرّسول(صلى الله علیه وآله) فلذا جاء فی ذیل الآیة إسقاط هذا الحکم عن المجموعة المستضعفة ممّا مکّنهم من مناجاة الرّسول(صلى الله علیه وآله) والتحدّث معه (فان لم تجدوا فانّ الله غفور رحیم).
وبهذه الصورة فإنّ دفع الصدقة قبل النجوى کان واجباً على الأغنیاء دون غیرهم.
والطریف هنا أنّ للحکم أعلاه تأثیراً عجیباً وامتحاناً رائعاً أفرزه على صعید الواقع من قبل المسلمین فی ذلک الوقت، حیث امتنع الجمیع من إعطاء الصدقة إلاّ شخص واحد، ذلک هو الإمام أمیر المؤمنین(علیه السلام)، وهنا اتّضح ما کان یجب أن یتّضح، وأخذ المسلمون درساً فی ذلک، لذا نزلت الآیة اللاحقة ونسخت الحکم حیث یقول سبحانه: (أأشفقتم أن تقدّموا بین یدی نجواکم صدقات).
حیث اتّضح أنّ حبّ المال کان فی قلوبکم أحبّ من نجواکم للرسول(صلى الله علیه وآله) واتّضح أیضاً
أنّ هذه النجوى لم تکن تطرح فیها مسائل أساسیة، وإلاّ فما المانع من أن تقدّم هذه المجموعة صدقة قبل النجوى، خاصّة أنّ الآیة لم تحدّد مقدار الصدقة فبإمکانهم دفع مبلغ زهید من المال لحلّ هذه المشکلة!!
ثمّ یضیف تعالى: (فإذ لم تفعلوا وتاب الله علیکم فأقیموا الصلاة وآتوا الزکاة وأطیعوا الله ورسوله والله خبیر بما تعملون).
ویعکس لنا التعبیر بـ (التوبة) أنّهم فی نجواهم السابقة کانوا قد ارتکبوا ذنوباً، سواء فی التظاهر والریاء، أو أذى الرّسول(صلى الله علیه وآله) أو أذى المؤمنین الفقراء.
وبالرغم من عدم التصریح بجواز النجوى فی هذه الآیة بعد هذا الحادث، إلاّ أنّ تعبیر الآیة یوضّح لنا أنّ الحکم السابق قد رفع.
أمّا الدعوة لإقامة الصلاة وإیتاء الزکاة وإطاعة الله ورسوله فقد أکّد علیها بسبب أهمیّتها، وکذلک هی إشارة إلى أنّه إذا تناجیتم فیما بعد فیجب أن تکون فی خدمة الأهداف الإسلامیة الکبرى وفی طریق طاعة الله ورسوله.
