ظاهر کثیر من روایاتها أنّها من الأمارات، بل یظهر من بعضها أنّها أمارة قطعیّة فی مواردها لاتخطىء عن الواقع المجهول أبداً، مثل ما روی عنه(صلى الله علیه وآله): (لیس من قوم تقارعوا ثمّ فوضوا أمرهم إلى اللّه إلاّ خرج سهم المحقّ)(1).
و ما روی فی مناظرة الطیّار و زرارة، الدّال على أنّ القرعة على طبق رأى زرارة ـ فقیه أهل البیت(علیه السلام) ـ کانت کاشفة عن الواقع کشفاً دائماً لایقع التّخلّف فیه، و لذا لو احتمل کذب المتداعیین جمیعاً لابدّ من إلقاء سهم لهذا و سهم لذاک و سهم مبیح(2)
و الظّاهر أنَّ تفویض الأمر إلى اللّه و الدّعاء عندها أیضاً لایکون إلاّ لکشف الواقع المجهول.
و یؤیّده ما ورد فی قضیّة شیخ البطحاء عبدالمطلّب و قرعته لکشف مرضاة ربّه بالفداء عن عبداللّه(3).
و ما ورد فی تفسیر العیّاشی، فی حدیث یونس من قوله: «فجرت السنّة أنّ السّهام إذا کانت ثلاث مرّات لاتخطىء»(4)
و ما روی عن أمیرالمؤمنین(علیه السلام): ما من قوم فوّضوا أمرهم إلى اللّه عزّوجلّ، و ألقوا سهامهم إلاّ خرج السهم الأصوب)(5)
هذا ولکن یظهر من بعض أخبارها أنّ حجّیتها لیست بملاک کشفها عن الواقع المجهول، بل بملاک أنّها أقرب إلى العدالة، و أبعد من العمل بالمیول و الأهواء فی موارد جریانها، مثل ما ورد فی روایة ابن مسکان عن الصّادق(علیه السلام): (و أیّ قضیّة أعدل من قضیّة یجال علیها بالسّهام، یقول اللّه: (فَسَاهَمَ فَکَانَ مِن المُدحَضِینَ )(6).
و یؤیّد هذا استشهاده بقضیّة یونس، بناءاً على کفایة إلقاء واحد غیر معیّن منهم عند الحوت لدفع شرّه; فتأمّل.
و یؤیّده أیضاً ما ورد فی غیر واحد من أخبارها من قوله: (کل ما حکم اللّه فلیس بمخطىء) فی مقام الجواب عن قول السّائل: (إنّ القرعة تخطىء و تصیب)، بناءاً على أنّ المراد منه عدم الخطأ فی الحکم بحجّیة القرعة، و أنّه إذا حکم اللّه سبحانه بشیء ففیه مصلحة لامحالة، فخطأ القرعة عن الواقع أحیاناً لایمنع عن صحّة هذا الحکم و إشتماله على المصلحة، و أمّا لو قلنا: إنّ المراد منه عدم خطأ القرعة عن الواقع المجهول، کان دلیلاً آخر على کونها أمارة قطعیة.
هذا و یمکن أن یقال لامنافاة بین الملاکین، و لامانع من کون حجّیتها بکلیّهما: ملاک الإصابة و ملاک العدالة. و أمّا حمل الأوّل على ما له واقع ثابت مجهول، و الّثانی على ما لیس کذلک، فیدفعه الاستشهاد بملاک العدالة فی ذیل مسألة الخنثى المشکل و کیفیّة میراثه.(7) بناءاً على عدم خروج الخنثى عن الجنسین فی الواقع کما هو المشهور.
و الإنصاف، أنّه لایمکن رفع الید عن تلک الرّوایات الکثیرة الظّاهرة فی کونها أمارة على الواقع، إمّا دائماً أو غالباً و لا مانع منه عقلاً إذا انحصر الطّریق فیها و فوّض الأمر إلى اللّه تبارک و تعالى، العالم بخفیّات الأمور اللّطیف بعباده.
و لقد جربنا هذا الأمر فی باب الاستخارة ـ الّتی هی من القرعة على ما اختاره بعضهم و ستأتی الإشارة إلیه إن شاء اللّه فی آخر المسألة ـ و رأینا منها عجائب جمّة فی إصابة الواقع و کشف المجهول، إذا استعملت فی محلّها، و فوّض الأمر إلى اللّه، و قرنت بالإخلاص و الابتهال.
ثمّ اعلم، أنّ کون القرعة أمارة على الواقع و کاشفاً عنه دائماً أو غالباً لایوجب تقدّمها على «الاصول العملیّة، و لا معارضتها لسائر الأمارات; و ذلک لما عرفت من أنّ أماریتها إنّما هی فرض خاص و منحصر بالأمور المجهولة المشکلة الّتی لاطریق إلى حلّها لا من الأمارات و لا من الأصول العملیّة.
و بعبارة أخرى: موضوعها مختصّ بموارد فقد الأدلّة و الأصول الأُخر، و علیه فلاتعارض شیئاً منها و لا تقدّم علیها، بل إنّما تجری فی موارد فقدها.
ثمّ إنّ من المعلوم أنّ الکلام فی أماریتها و عدمها إنّما هو فی خصوص ما له واقع ثابت مجهول، و أمّا ما لیس کذلک من موارد تزاحم الحقوق أو المنازعات الّتی یرجع فیها إلى القرعة، کما فی قضیّة زکریّا و تشاح أحبار بنی إسرائیل فی کفالة مریم، و کما فی قضیّة یونس ـ على احتمال مضى ذکره ـ و کذلک فیمن نذر أو أوصى بعتق أوّل مملوک له فملک سبعة فی زمان واحد، و أشباهها، فلا موقع لهذا النّزاع فیها، کما هو ظاهر.
فالرّجوع إلیها حینئذ إنّما یکون بملاک أقربیتها إلى العدالة و أبعدیتها عن التّرجیح بلا مرجح الّذی یکون منشأ للتّشاح و البغضاء غالباً.