ظاهر کثیر من عناوین کلمات القوم إختصاص قاعدة الصحّة بأفعال الغیر، بل ظاهر بعضها إختصاصها بأفعال المسلمین فحسب. لکن قد عرفت فی صدر البحث أنّه لافرق فی هذا بین المسلم و غیره أصلاً، بعد ما کان مدرکه بناء العقلاء علیه، و سیرتهم المستمرّة فی أمورهم، لایفرّقون فی ذلک بین أتباع المذاهب المختلفة، و لابین الملیین و غیرهم; و قد أمضاها ـ على هذا الوجه ـ الشّارع المقدّس و لم یردع عنها، و لایزال المسلمون یتعاملون مع المعاملات الصادرة عن أهل الذمّة معاملة الصّحیح، مع ما فیها من احتمال الفساد و لو على مذهبهم، و لیس هذا إلاّ لعمومیّة القاعدة، و عدم اختصاصها بالمسلمین.
نعم فی الموارد الّتی لایتمشی الفعل الصحیح من غیر المسلم، أو یعلم علماً تفصیلیّاً بإختلاف عقدیتهم مع ما علیه المسلمون من الأحکام، و لایکون بینهما جامع، لایمکن حمل فعلهم على الصحیح. و قد عرفت فی التّنبیه الأوّل جریان هذا المعنى فی حقّ المسلمین أیضاً، إذا اختلفوا فی الآراء الفقهیّة، و لم یجمعهم جامع، على ما فصّلناه هناک فراجع; فلیس هذا أیضاً مقصوراً على غیر المسلمین.
و أمّا تخصیص القاعدة بأفعال الغیر فهو ظاهر عناوینهم و کلماتهم فی مقامات مختلفة، بل و ظاهر غیر واحد من أدلّتهم ـ کالآیات و الأخبار الّتی استدلّوا بها هنا ـ ، بل وقع التّصریح به فی کلمات بعضهم کالمحقّق النّائینی (قدس سره)، حیث إنّه صرّح فی صدر کلامه فی المسألة بأنّه: «لاریب فی اختصاصها بفعل الغیر، و أمّا بالنسبة إلى فعل نفس الشّخص فالمتبع فیه هو قاعدة الفراغ، فلیس هناک أصل آخر یسمّى بأصالة الصحّة غیر تلک القاعدة» إنتهى.
و الحقّ أنّه لو قلنا بعموم قاعدة الفراغ و شمولها لجمیع الأفعال من العبادات و غیرها، من غیر فرق بین الصّلاة و الصّیام و البیع و الشّراء و النّکاح و العتق و تطهیر الثیاب و دفن الموتى إلى غیرها من الأفعال الّتی یتصوّر فیها الصحّة و الفساد، فلا یبقى مجال للنّزاع فی شمول هذه القاعدة لأفعال نفس المکلّف، للإستغناء عنها بقاعدة الفراغ; و أمّا إذا قلنا باختصاصها بالعبادات و ما یرتبط بها، فالظاهر جواز الإستناد إلى قاعدة الصحّة فی موارد الشکّ فی صحّة أفعال النّفس، من ناحیة الإخلال ببعض أجزائها و شرائطها، أو وجود بعض موانعها.
و الدلیل على جریانها فی المقام هو الدلیل على جریانها فی غیر المقام ـ من أفعال الغیر ـ، و قد عرفت أنّ عمدة الدلیل علیها هناک هی السّیرة المستمرّة بین العقلاء; فإنّا إذا تتبعنا حالهم نجدهم عاملین بها فی أفعال أنفسهم، فهل ترى أحداً من العقلاء یتوقّف عن الحکم بآثار ما صدرت منه من العقود و الإیقاعات فی الأزمنة السّالفة إذا شکّ فی صحّتها من بعض الجهات و لم یجد علیها دلیلاً؟ کلا، بل لایزالون یتعاملون مع ما صدر منهم فی الأزمنة البعیدة و القریبة معاملة الصحّة و یرتّبون آثارها علیها، و لایمسکون عن ذلک بمجرّد الشکّ، و لایمنعهم عن ذلک شیء إلاّ إذا وجدوا على الفساد دلیلاً.
و السرّ فیه أنّ العلّة الّتی دعتهم إلى هذه السّیرة هناک موجودة بعینها هنا، و کل ما کان ملاکاً لها فی أفعال الغیر موجود فی أفعال النّفس; و ذلک لما عرفت من أنّ العلّة الباعثة إلى هذا البناء لاتخلو عن أمور ثلاثة: الغلبة الخارجیّة المورثة للظنّ، و إقتضاء طبع العمل للصحّة من جهة جری الفاعل بحسب دواعیه الخارجیّة نحو الفعل الصحیح، و العسر و الحرج أو اختلال النّظام الحاصلان من ترک مراعاة هذه القاعدة. و من الواضح أنَّ هذه الأمور جاریة بالنسبة إلى أفعال النّفس کجریانها فی ناحیة أفعال الغیر، بل لعلّ جریانها هنا أسهل منه فی أفعال الغیر; فإنّ الإشکال الحاصل من جهة إختلاف الصحّة عند الفاعل مع الصحّة عند العامل هناک، غیر موجود هنا، لأنّ الحامل هنا هو الفاعل بعینه.