لم تزل و لاتزال تفتخر الشیعة الإمامیة بأنّ مصادر علومها هم أهل بیت الوحی و ورثة علم النبیّ(صلى الله علیه وآله)، فعندهم من الأثر الصحیح ما لم یصل إلى غیرهم، حیث أخذوها ممّن صاحبه طوال اللیالی و الأیّام، و صاحب سرّه و من تربّی فی حجره، أو ممّن نشأ من بعده فی بیته.
لکن لایفتخر الشیعة بهذا فحسب; بل یفتخرون أیضاً بأنّ أئمتهم(علیهم السلام) قد فتحوا لهم باب الإجتهاد حینما أغلقه الأخرون على أنفسهم، فأمروهم بالنظر و التفکیر فی الأصول التی وصلت إلیهم و استنباط فروعها منها، و فی الفروع الَّتی تحدث لهم و إرجاعها الى أصولها، لیتبیّن لهم بذلک کل ما یحتاجون إلیه من الأحکام الشرعیة فی جمیع الحوادث الواقعة لهم.
و قد ندبهم أئمة اهل البیت(علیهم السلام) إلى ذلک تارة بقولهم(علیهم السلام): «أنتم أعرف النّاس إذا عرفتم معانی کلامنا»(1).
و أخرى; بأنّ للّه على الناس حجّتین: حجة ظاهرة و حجة باطنة، فأمّا الظاهرة فالرسل و الأنبیاء و الأئمة، و أما الباطنة فالعقول.(2)
و ثالثة; بتعلیمهم طرق الجمع بین الأخبار المتعارضة، بالأخذ بالمجمع علیه، و بعرضها على کتاب اللّه، و غیر ذلک من المرجّحات.
و رابعة; بمثل قولهم(علیهم السلام): «هذا باب ینفتح منه ألف باب»، بعد الإشارة إلى قاعدة «الغلبة» و هی: إنَّ ما غلب اللّه علیه فاللّه أولى بالعذر،(3) و قولهم(علیهم السلام) مشیرین إلى بعض مسائل الوضوء: «هذا و أشباهه یُعرف من کتاب اللّه، و ما جعل علیکم فی الدین من حرج»،(4) فحثوهم على الإستضاءة بالکتاب العزیز و الأصول الّتی وردت فی السنة أکثر ممّا یعرفه النّاس.
و خامسة; بإبطالهم التصویب و إعلامهم بأنَّ للّه فی کُلِّ واقعة حکماً یشترک فیه العالم و الجاهل،(5) فمن أدرکه فقد أصاب و إلاّ فقد أخطأ، و: «إن للمصیب أجرین و للمخطئ أجراً واحداً»،(6) حتى یبذل الناظر غایة مجهوده فی البحث و الفحص عن الأدلة لیصیب الأحکام الواقعیة، و لایکتفی بما وقف علیه بادئ نظره، بزعمه أنّ المجتهد مصیب فی رأیه، و ما انتهى إلیه إجتهاده هو حکم اللّه الواقعی فی حقه; إلى غیر ذلک من القرائن الکثیرة التی یطول المقام بذکرها.
فبهذه و بغیرها فتحو(علیهم السلام) علینا باب الإجتهاد، الّذی هو رمز بقاء الدّین و حافظ نشاطه العلمی، و به تُوجَّه الخطى نحو الکمال و یتقدم العلم إلى الإمام و یعلو الإسلام و لا یُعلى علیه، أجل لا ینمو العلم ـ أیّ علم کان ـ ولا یربو إلاَّ تحت ضوء الإجتهاد.
و لذلک نرى فقهاء أهل البیت من أصحابنا قد أتوا بما لم یأت به الأخرون، من کتب قیّمة کثیرة فی مختلف أبواب الفقه و أصوله، و تلاحقت آراؤهم العلمیّة و
نظراتهم جیلاً بعد جیل حتى انتهت إلى یومنا هذا، فأخذت علوم الدین و لا سیما الفقه عندهم یتسع نطاقها کل یوم، فها نحن قد ورثنا الیوم من أصحابنا الأقدمین و علمائنا الأکابر المتأخّرین مئات، لا بل آلاف من الکتب القیمة فی الفقه و أصوله و الحدیث و رجاله; بها ینکشف النقاب عن غوامض مسائلها، و یهتدی روّاد العلم إلى مکنون حقائقها، فشکر اللّه سعیهم و أجزل أجرهم، و جزاهم عنّا و عن الإسلام خیر الجزاء.