قد وقع الکلام بینهم فی أنّ «الید» حجّة کسائر «الإمارات الشّرعیّة و العقلائیّة» أو أنّها معتبرة کأصل عملی؟ ثمّ وقع الکلام فی وجه تقدیمها على الإستصحاب و سائر «الأصول العملیّة» على القول بکونها من الأصول.
فذهب کثیر من المحقّقین إلى أنّها إمارة عقلائیّة أمضاها الشّارع المقدّس، ولکن یظهر من صدر کلام شیخنا العلاّمة الأنصاری المیل إلى کونها أصلا تعبّدیًّا معتبراً لحفظ النّظام و إقامة الأمت و العوج، بینما یظهر من ذیله المیل إلى کونها من الإمارات، نظراً إلى إنّ إعتبارها عند العقلاء إنّما هو لکشفها عن الملک غالباً و الغلبة إنّما توجب الحاق المشکوک بالغالب، فالشّارع إعتبرها بهذا الملاک أیضاً.
و قال المحقّق النّائینی بعد ما أختار کونها إمارة: «أنّه لاثمرة مهمّة فی هذا النّزاع، لتقدّمها على الإستصحاب مطلقاً، إمارة کانت أو أصلاً عملیًا».
هذا و الحقّ أنّ الّذی یظهر ممّا ذکرنا آنفاً عند بیان أدلّة حجّیتها إنّ العمدة فی ملاک حجّیتها إنّها کاشفة عن الملک لا لغلبة الأیدی المالکیّة على العادیّة کما ذکر غیر واحد منهم، لمّا سیمر علیک من الإشکال فی أمر هذه الغلبة; بل لأنّ الملک مقتضی طبعها الأولى; فإنّ الملکیّة أوّل ما نشأت کانت کالأمور العینیّة الخارجیّة، لا الأمور الإعتباریّة و التشریعیّة الّتی وعائها الذّهن و عالم الإعتبار.
فحقیقة الملکیّة کانت هی الغلبة و السّیطرة الخارجیّة على شىء، و الإختصاص الحاصل منه فی عالم الخارج; و منشأ هذه السّیطرة و الإستیلاء کانت الحیازة الّتی تکون بالید غالباً; فکلّ من اکتسب شیئاً من المباحات بیده کان مسلّطاً علیه، مانعاً لغیره من التّصرّف فیه بأنواع التّصرّفات. فأخذُه بیده دلیل على کسبه، و سببٌ للوصول إلى جمیع أنحاء التّصرّف فیه. فهذه هی المرحلة الأولى من مالکیّة الإنسان للأشیاء الخارجیّة.
ثمّ انتقل الأمر من أخذ الإنسان العین الخارجیة بیده إلى جعلها فی محلّ تصل یده إلیها کلّما شاء; و یمنع غیره عنها کلّما قصدها، و هذه هی المرحلة الثّانیة لها.
و حیث إنّ ذلک ـ أعنی جعلها تحت یده و فی حیطة تصرّفه الخارجی دائماً ـ کان أمراً صعباً; لأنّ الملکیّة مازالت تکثر و تزداد و تتنوّع، و کان المالک کثیراً ما یغیب عمّا یملکه و لایمکنه نقل جمیعه معه أینما ذهب، التّجأوا إلى أمر أسهل و أوسع منه، و هو جعلها فی شکل آخر إعتباری، لا خارجی تکوینی; فجعلوا لها صورة قانونیّة تشریعیّة لا واقعیّة تکوینیّة، و من هنا نشأت الملکیّة و السّلطة الإعتباریّة، المعبّر عنها بالید، و کانت هذه هی المرحلة الأخیرة للملکیّة.
فکانت الید فی شکلها الإعتباری القانونی دلیلاً على الملک کما کانت فی شکلها التّکوینی الخارجی دلیلاً علیه بمقتضى طبیعتها الأوّلیّة.
و من هنا تعرّف أنّه لایتفاوت الحال فی أمر هذه الکاشفیّة بغلبة الأیدی المالکة على غیرها ـ مع ما فی هذه الغلبة من الإشکال ـ; لا لما ذکره المحقّق الإصفهانی(قدس سره)فقط من أنّ المسلّم إنّما هو غلبة الید غیر العادیة ـ أعمّ من ید الملک و الوکالة و الوصایة و غیرها ـ لا الید المالکة. بل لأنّ غلبة الأیدی غیر العادیة على العادیة أیضاً أمر غیر معلوم، لاسیّما فی زماننا هذا، و کثیر من الأزمنة السّابقة علیه; فمن سبر التّاریخ و علم أحوال کثیر من الملوک و الخلفاء و الأمراء و فوضاهم فی أموال اللّه و أموال النّاس، و خضمهم إیّاها خضم الإبل نبتة الرّبیع، و إقتقاء تابعیهم ـ و هم الأکثرون ذلک الیوم ـ لآثارهم، ثمّ انتقال هذه الأموال ـ لاسیّما الضیاع و العقار ـ منهم إلى من بعدهم، جیلاً بعد جیل، یعلم أنّ دعوى هذه الغلبة أمر مشکل جدّاً.
و قد کان بعض سادة أساتذتنا یقول فی بحثه فی غیر هذه المسألة ببعض المناسبات: «إنّ کلّ ما یکون تحت أیدینا من الأرض و الدّار و شبههما قد جرت علیها من أوّل یوم إحیائه أیدی أناس کثیرون لایعلمهم إلاّ اللّه; و هل یظنّ کون جمیع الأیدی الجاریة على کلّ عین منها مالکة أمینة غیر عادیة»؟
و من الواضح أنّ یداً واحدة منها فی سلسلتها الطولیة إذا کانت عادیة لم تکن تلک العین مملوکة لمالکها الفعلی واقعاً الآن، و إن کانت ملکا له ظاهراً.
و أوضح من هذا کلّه حال أموال النّاس و أملاکهم فی زماننا هذا، الّذی غلب علیه و على أهله الجور و الإعتداء، یتقلّب کلّ على غیره و یتملّک أمواله یوماً بعنوان القهر و الظّلم، و یوماً بعنوان بسط العدل و المساواة، و یوماً تحت عنوان إجراء أصول الإشتراکیّة، و یوماً بالرّبا، و یوماً بالغشّ فی المعاملة، و یوماً بالرّشاء، و بأشکال کثیرة آخر.
و إن أبیت عن جمیع ذلک و قلت بغلبة الأیدی الأمینة على العادیة فی جمیع ما ذکرنا، فافرض نفسک فی صقع من الأصقاع و بلد من البلاد تکون الأیدی المالکة متساویة مع الأیدی الخائنة، فهل ترى من نفسک اسقاط الید عن دلالتها على الملکیة مطلقاً، و تتعامل مع جمیع الأموال الّتی بأیدی النّاس هناک معاملة مجهول المالک، و هل یساعدک العقلاء و أهل العرف على ذلک، لو قلت به؟!
هذا و لا غرو أن یکون هناک أمارة لاتدور مدار الغلبة. و إن تعجب فعجب قولهم بحجّیة أصالة الحقیقة و تقدیمها على احتمال المجاز، و لو کان الإستعمال المجازی بالنّسبة إلى بعض الألفاظ أغلب من استعماله الحقیقی. فهل ترى فرقاً بینه و بین ما نحن فیه; و السّرفیه أیضاً هو أنّ دلالة اللّفظ على المعنى الحقیقی إنّما هی بمقتضى طبعها الأوّلی، و شرحه فی محلّه.
و هکذا الحال فی أصالة السّلامة الدّائرة بین العقلاء; فإنّها لیست من استصحاب الثّابت حجّیته بمقتضى أخبار «لاتنقض»، بل هی حجّة من باب الظنّ الحاصل من مقتضى طبع الإنسان; فإنّه یقتضی الصّحّة و السّلامة، و لاینافی ذلک تساوی المرضى و السّالمین أحیاناً.
