الحق أنّه إن کان المراد من الصحّة فی باب الأقوال مطابقة مدالیلها للواقع، فحملها على الصحّة بهذا المعنى عبارة أخرى عن حجّیتها، و المتکفّل له مبحث حجّیة خبر الواحد; و من المعلوم عدم حجّیة خبر کل مخبر، بل هو مشروط بشرائط مذکورة فی محلّه، على اختلاف المذاهب فی ذلک.
و إن کان المراد صحّتها بما أنّها أفعال صادرة عن المتکلّمین بها، و کان لها آثار شرعیّة بهذا الإعتبار، کما إذا شکّ فی صحّة القراءة و الأذکار الصلواتیّة الصادرة من الإمام أو الأجیر، فإنّها و إن کانت من سنخ الأقوال و لها معان معلومة، إلاّ أنّها باعتبار ألفاظها الصادرة عن المکلّف جزء للصلاة، فهی من هذه الجهة فعل من أفعاله یترتّب على صحیحها آثار خاصّة; فإذا کان هذا هو المراد فلاشکّ فی أنّها بهذا الإعتبار مشمولة لأدلة حجّیة القاعدة، فتجری فیها و یترتّب علیها آثارها. هذا ملخّص الکلام فی «الأقوال».
و أمّا «الإعتقادات» فتارة یکون البحث فیها عن الإعتقادات المتعلّقة بالموضوعات الخارجیّة، و أخرى بما یتعلّق بالأحکام الفرعیّة، و ثالثة بما یتعلّق بأصول الدّین.
أمّا الأوّل، فکما إذا اعتقد إنسان أنّ هذا الماء الخاصّ بلغ قدر کر، و شککنا فی صحّة إعتقاده ذلک، لاحتمال خطئه عند تقدیره بالأشبار أو الوزن; فإن کان لاعتقاده ذلک آثار عملیّة خارجیّة، کما إذا غسل ثوباً بذاک الماء المشکوک کریّته عندنا، فلا ینبغی الإشکال فی لزوم حمل إعتقاده على الصحّة، و ترتیب آثار الطهارة على الثوب المغسول به، بل هو فی الحقیقة من مصادیق حمل فعل الغیر على الصحّة، و إن کان منشأ الشکّ فی صحّته هو احتمال خطئه فی إعتقاده; ففی المثال المذکور فعل الغیر ـ و هو الغسل ـ محمول على الغسل الصحیح، و إن کان منشأ الشکّ فیه الشکّ فی صحّة إعتقاده کون الماء المغسول به کرّاً.
و من المعلوم أنّ أدلّة حمل أفعال الغیر على الصحیح مطلقة من جهة منشأ الشکّ، و لا فرق فیه بین کونه من جهة احتمال غفلة الفاعل و سهوه، أو تعمدّه فی الجری على خلاف معتقده، أو اعتقاد فاسد بنى علیه فی عمله. و هذا أمر ظاهر لاسترة علیه.
و أمّا الثّانی ـ و هو الإعتقاد المتعلّق بالأحکام الفرعیّة ـ فإن کان المراد من حمله على الصحّة الحکم بمطابقته للواقع، فیجوز اتّباعه و الجری على وفّقه، فهو راجع إلى حجّیة رأی الغیر و جواز تقلیده فی الأحکام الفرعیّة، و المتّبع فیه أدلّة حجیّة قول المجتهد للعامی بما له من الشّرائط و القیود. و إن کان المراد منه ترتیب آثاره العملیّة علیه إذا عمل بما اعتقد من الأحکام، کما إذا کان إماماً و شکّ فی صحّة صلاته، و کان منشأ الشکّ فیها إحتمال خطئه فی بعض أحکامها و مخالفتها لما حصّله إجتهاداً أو تقلیداً، فلا شکّ أنّ اللازم هنا أیضاً هو حمل إعتقاده على الصّحیح، و تترتّب علیه هذه الآثار، فیجوز الائتمام به، کما یجوز إستیجاره، و یُکتفى بأعماله فی أداء الواجبات الکفائیّة; بل هو فی الواقع من باب حمل فعل الغیر على الصحّة، و إن کان منشأ الشکّ فیها خطؤه فی إعتقاده. و الوجه فیه ما عرفت من عدم الفرق فی حجّیّة هذه القاعدة بین کون منشأ الشکّ فی صحّة فعل الغیر، خطؤه فی تشخیص المصادیق الخارجیّة; أو خطؤه فی إستنباط الأحکام من أدلّتها الشّرعیّة، أو غیر ذلک ممّا لایرجع إلى خطئه فی الإعتقاد.
و أمّا الثّالث ـ أعنی الإعتقاد المتعلّق بأصول الدّین ـ فإن کان هناک أثر عملی یترتّب على الإعتقاد الصحیح، کما إذا کان هناک ذبیحة نشک فی تذکیتها من جهة الشکّ فی صحّة عقائد ذابحها، فاللازم حمل إعتقاده على الصحّة إن کان مدّعیاً للإسلام إجمالا، و ترتیب جمیع آثار الإسلام علیه و إن شکّ فی صحّة عقائده، و لایجب الفحص عن تفاصیل معتقده فی ناحیة المبدأ و المعاد و غیرهما. و الدّلیل علیه ما مرّ فى القسم السّابق بعینه، من إطلاق أدلّة حجّیّة هذه القاعدة، و شمولها لجمیع موارد الشکّ فی صحّة فعل الغیر من أی واد حصل، و من أیّ منشأ نشأ.
بل لایبعد جواز الحکم بإسلام کلّ من شکّ فی إسلامه و إن لم یدّع الإسلام إذا کان فی دار الإیمان، و الوجه فیه إستقرار سیرة المسلمین على إجراء أحکام الإسلام، فی المناکح و الذبائح و الطهارة و غیرها، على کلّ من کان فی بلاد الإسلام من دون فحص عن مذهبه، حتّى یقوم دلیل على فساده.
هذا آخر ما أردنا تحریره من تنبیهات هذه القاعدة الشریفة، النافعة فی جلّ أبواب الفقه أو کلّها، و لم نعتمد فیها الإجمال کما صنعه کثیر منهم، و به نختم البحث عنها حامداً للّه و مسلّماً و مصلیًّا على نبیّه و آله الخیرة الکرام. الّلهمّ ما بنا من نعمة فمنک، فلا تسلبنا صالح ما أنعمت به علیها وزدنا من فضلک و مواهبک.
