واللازم هنا تحقیق معنى الرشوة ومحتواها، قال فی «القاموس»: إنّ الرشا الجعل، (ولا شکّ أنّه تعریف شرح إسمی) وقال فی «مصباح المنیر»: أنّه ما یعطیه الشخص للحاکم وغیره لیحکم أو یحمله على ما یرید، وعن «مجمع البحرین» قلّما تستعمل الرشوة إلاّ فیما یتوصّل إلى إبطال حقّ أو تمشیة باطل، وفی «لسان العرب» الرشوة مأخوذة من رشا الفرخ إذا مدّ رأسه إلى اُمّه لتزقّه، والرشاء رسن الدلو، ثمّ قال: قال ابن الأثیر «الرَّشوة» و «الرُّشوة» الوصلة إلى الحاجة بالمصانعة، وأصله من الرشاء الذی یتوصّل به الماء، فالراشی من یعطی الذی یعینه على الباطل، والمرتشی الآخذ. وذکر فی ضمن کلامه الحدیث النبوی المعروف: لعن الله الراشی والمرتشی والرائش (أی الماشی بینهما).
وتلخّص ممّا ذکرنا أنّ الرشوة فی الأصل بمعنى الجعل، ومدّ الفرخ رأسه لیغتذی من اُمّه، أو إرضاع الناقة لفصیلها، ثمّ إستعمل فی الوصلة إلى الحاجة بالمصانعة، أو ما یعطی لمن یعینه على الباطل، من غیر تقییده بخصوص الأحکام والقضاء، ولیکن هذا على ذکر منک.
وأمّا غلبته فی الإعانة على الباطل بحیث ینصرف إلیه عند إطلاقه ـ کما ذکره فی «مفتاح الکرامة» حیث قال: الرُشا (بالضمّ والکسر) جمع رشوة، ومثله الجعل کما فی القاموس، وفی «النهایة» الراشی الذی یعینه على الباطل والمرتشی الآخذ، والرائش الذی یسعى بینهم(1) ـ فظاهر جدّاً، لا لما عرفت من مجمع البحرین فقط، بل لدلالة روایات الباب علیه أیضاً، فإنّ إطلاق قوله: أمّا الرشا فی الحکم فهو الکفر بالله العظیم المروی فی کثیر منها (1 و2 و8 و12 و16 الباب 5 من أبواب ما یکتسب به من الوسائل) شاهد علیه، فانّها بقرینة بعض ما عرفت آنفاً ناظر إلى قوله تعالى: (وَمَنْ لَّمْ یَحْکُمْ بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَـئِکَ هُمْ الْکَافِرُونَ)(2).
فلو لم یفهم هذا من إطلاق الرشوة لم یحسن ذکره مکرّراً بدون قید هذا «أوّلا».
و «ثانیاً»: جعلها فی عداد ثمن الخمر ومهر البغی وثمن الکلب وغیر ذلک یدلّ على أنّه فی مقابل عمل محرّم، فلو أخذه فی مقابل الحکم بالحقّ لم یکن کذلک.
و «ثالثاً»: جعلها فی مقابل اُجور القضاة فی غیر واحد من روایات الباب التی سبق ذکرها، فلو کان جعل القاضی مطلقاً رشوة لم یکن لذلک وجه.
«رابعاً»: قد عرفت أنّها مأخوذة من أحد المعانی الثلاثة التی تشترک فی معنى الوصول إلى مقصد خاصّ عن طریق عمل، وهذا لا یناسب إعطاء مطلق الأجر إلى القاضی، اللهمّ إلاّ أن یقال إنّ المقصود الوصول إلى نفس القضاء، ولکن لا یخلو عن بعد.
وعلى هذا لا شکّ أنّ مقتضى القاعدة القول بالحرمة فی خصوص ما یؤخذ على الحکم بالباطل، أو الحکم على وفق مراده باطلا کان أو حقّاً، فلا تشمل القسم الثالث من الأقسام السابقة ولا ما بعده.
ومن هنا یظهر النظر فی کلام الجواهر حیث قال: إنّ الرشوة خاصّة فی الأموال وفی بذلها على جهة الرشوة، أو أنّها تعمّها وتعمّ الأعمال، بل والأقوال کمدح القاضی والثناء علیه، والمبادرة إلى حوائجه وإظهار تبجیله وتعظیمه، ونحو ذلک وتعمّ البذل وعقد المحاباة والعاریة والوقف ونحو ذلک، وبالجملة کلّ ما قصد به التوصّل إلى حکم الحاکم؟ قد یقوى فی النظر الثانی، وأن شکّ فی بعض الأفراد فی الدخول فی الإسم، أو جزم بعدمه فلا یبعد الدخول فی الحکم (انتهى)(3).
وکذلک بالنسبة إلى العاریة والوقف وشبهه، نعم دخولها فی الملاک غیر بعید بالنسبة إلى المعاملات المحاباتیة، لا بالنسبة إلى الأقوال والسعی فی الحوائج.
کما یظهر النظر فی کلام بعض أعاظم السادة فی حواشیه على المکاسب من أنّ المتحصّل من کلمات الفقهاء رضوان الله تعالى علیهم، ومن أهل العرف واللغة ... أنّ الرشوة ما یعطیه أحد الشخصین للآخر لإحقاق حقّ أو تمشیة باطل، أو للتملّق، أو الوصلة إلى الحاجة بالمصانعة، أو فی عمل لا یقابل بالاُجرة والجعل عند العرف والعقلاء ... بل یفعلون ذلک العمل للتعاون والتعاضد فیما بینهم، کإحقاق الحقّ وإبطال الباطل، وترک الظلم والإیذاء أو دفعها وتسلیم الأوقاف ... إلى غیره، کأن یرشو الرجل على أن یتحوّله عن منزله فیسکنه غیره، أو یتحوّله عن مکان فی المساجد فیجلس فیه غیره، إلى غیر ذلک من الموارد التی لم یتعارف أخذ الاُجرة علیها، انتهى(4).
والظاهر أنّ الذی حمله على هذا التعمیم العجیب فی ناحیة موضوع الرشوة هو الأخذ بظاهر بعض کلمات اللغویین من أنّها الوصلة إلى الحاجة بالمصانعة، مع انّک عرفت أنّ هناک قرائن کثیرة تحدّدها.
1. مفتاح الکرامة، ج 4، ص 91.
2. سورة المائدة، الآیة 44.
3. جواهر الکلام، ج 22، ص 146 ـ 147.
4. مصباح الفقاهة، ج 1، ص 262 ـ 263.
