الأعیان النجسة إذا کانت لها منافع معتدٍّ بها هل یجوز بیعها؟ کالعذرة للتسمید، والدم للمرضى والمجروحین، ودهن المیتة لبعض الإنتفاعات؟ لا تخلو کلمات الفقهاء هنا من تشویش، فنقول ومنه سبحانه التوفیق: أمّا بالنسبة إلى العذرة ففیها أقوال، المشهور عدم الجواز مطلقاً، قال الشیخ فی الخلاف: سرجین ما یؤکل لحمه یجوز بیعه، وقال أبو حنیفة: یجوز بیع السراجین، وقال الشافعی: لا یجوز بیعها. ولم یفصّلا، دلیلنا على جواز ذلک إنّه طاهر عندنا، ومن منع منه فإنّما منع لنجاسته ـ ثمّ إستدلّ بالسیرة الجاریة فی جمیع الأمصار والأعصار ـ ثمّ قال: أمّا النجس منه فلدلالة إجماع الفرقة، وروی عن النبی(صلى الله علیه وآله وسلم)إنّه قال: «إنّ الله إذا حرّم شیئاً حرّم ثمنه». وهذا محرّم بالإجماع، فیجب أن یکون بیعه محرّم(1).

وظاهره مخالفة بعض الأصحاب فی المأکول لحمه لنجاسته عنده.

هذا والمحکی عن المفید وسلاّر عدم جواز بیع الأبوال والأرواث کلّها (ولو من مأکول اللحم الطاهر) إلاّ بول الإبل(2).

والقول الثالث ما یظهر من الأردبیلی والمحقّق الخراسانی(قدس سرهما) من المیل إلى الجواز إذا کان لها نفع حتّى فی النجس منه، وحکى عن الفیض(قدس سره) أیض(3).

ولا ینبغی الشکّ فی أنّ مقتضى الأصل هو الجواز، لما عرفت من القاعدة فیما له نفع محلّل، والإنتفاع بالعذرة فی التسمید معمول ومعروف فی کثیر من البلاد، إلاّ أن یمنع منه مانع، وهو أمّا الإجماع المدّعى فی کلام الشیخ(رحمه الله) فی الخلاف، وفی کلام غیره کالعلاّمة(رحمه الله)فی التذکرة، وهو کما ترى فی مثل هذه المباحث، أو یمنع عنه الرّوایات الخاصّة، وهی ثلاث روایات:

1 ـ ما رواه یعقوب بن شعیب عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال: «ثمن العذرة من السحت»(4)وهو دلیل على الحرمة، ولکن سندها ضعیف لعلی بن مسکین، اللهمّ إلاّ أن یقال بإنجباره بعمل الأصحاب، فتأمّل.

2 ـ ما رواه محمّد بن مضارب عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال(علیه السلام): «لا بأس ببیع العذرة»(5). وهو أیضاً ضعیف بمحمّد بن مضارب.

3 ـ ما رواه سماعة بن مهران قال سأل رجل أبا عبدالله(علیه السلام) وأنا حاضر فقال: إنّی رجل أبیع العذرة فما تقول؟ قال: «حرام بیعها وثمنها». وقال(علیه السلام): «لا بأس ببیع العذرة»(6).

وفیه نظر من حیث دلالته ومن حیث سنده، فإن کان السند کما ذکره فی الوسائل عن صفوان عن مسمع عن أبی مسمع فلا یخلو عن شیء، ولکن الوسائل نقله عن التهذیب، وفی نسخة التهذیب عن مسمع بن أبی مسمع، وقد وثّقوه.

وأمّا روایة صفوان وهو من أصحاب الإجماع فلا أثر لها، لما ذکرنا مراراً من أنّ کون الرجل من أصحاب الإجماع دلیل على وثاقة نفسه بالإجماع، ولا أثر له لمن بعده.

وأمّا الدلالة فصدرها دلیل على الحرمة وذیلها دلیل على الجواز، وقد ذکر للجمع بینهما عدّة أقوال:

منها: حمل المنع على التقیّة لکونه مذهب أکثر العامّة ـ لکن قد عرفت أنّ کلماتهم فی ذلک مختلفة ـ وذهب أبو حنیفة إلى الجواز.

منها: حمل خبر الحرمة على عذرة الإنسان، والثانی على البهائم (والظاهر أنّ مراده الفرق بین الطاهر والنجس ولکنّه جمع تبرّعی) کما هو الظاهر.

ومنها: الفرق بین البلاد التی تعارف الإنتفاع بها وما لم یتعارف (نقل عن العلاّمة المجلسی (قدس سره)) وهو أیضاً کذلک، أی جمع تبرّعی.

ومنها: الحمل على الکراهة ـ کما عن السبزواری ـ وهو الموافق لما جرت علیه سیرتهم فی أبواب الفقه فیما إذا ورد النهی، ثمّ ورد الجواز، وإن ضعفه فی الجواهر هنا، وکذلک صاحب الحدائق(7).

ولکن التعبیر بالسحت یبعده. وإستعمال السحت فی بعض موارد الکراهة لا یمنع ظهوره القوی عند الخلو عن القرینة فی الحرمة.

ومنها: حمل النهی على الحرمة الوضعیة، والجواز على عدم الحرمة التکلیفیة، کما علیه بعض أعاظم العصر(8)، وهو عجیب جدّاً، فإن الذی یقع الإبتلاء به عادةً هو الحرمة الوضعیّة، أعنی صحّة البیع وفساده، وکیف یمکن أن یکون جوابه(علیه السلام)عن شیء قلّما یقع فی ذهن أحد فی أمثال المقام، وهو الحرمة التکلیفیة المجرّدة عن الوضعیة؟ والعجب أنّه جعله أحسن جمع مع أنّه لو سلم کان تبرّعیاً أیضاً.

وإذا لم یصحّ الجمع الدلالی تصل النوبة إلى المرجّحات، وحیث أنّ الحکمین مذکوران فی موثّقة سماعة یقع الکلام فی أنّها روایتان جمعهما فی النقل هو، أو من تأخّر عنه، أو روایة واحدة؟ فإن کانت روایة واحدة لا یمکن إجراء المرجّحات بالنسبة إلى فقراتها، وإحتمال جواز إجراء المرجّحات فی أجزاء خبر واحد واضح الفساد، لإنصراف قوله: یأتی عنکم خبران متعارضان، أو شبه ذلک فی الخبرین المستقلّین، لا فی جملات خبر واحد کما هو ظاهر، وحینئذ یسقط ما رواه سماعة بتعارض الصدر والذیل، ویبقى ما رواه یعقوب ومحمّد بن مضارب، وهما وإن کانا ضعیفین إلاّ أنّ روایة الحرمة منجبرة بالشهرة، دون روایة الجواز، فتبقى الاُولى سلیمة عن المعارض.

وأمّا إن قلنا أنّهما روایتان جمعاً فی نقل واحد فتصل النوبة إلى أعمال المرجّحات، ومن المعلوم أنّ الشهرة وتوافق الحرمة، ولکن فی مقابلها مخالفة العامّة، التی توافق روایة الجواز وتوجب ترجیحها، اللّهمّ إلاّ أن یقال: موافقة أبی حنیفة للجواز الذی إشتهرت فتاواه فی إجراء صدور الروایة، یمنع عن الأخذ بهذا المرجّح، ولیس ببعید.

والإنصاف إنّ تعدّد الروایة أقوى فی النظر، فانّه من البعید صدور الروایة من المعصوم بهذه العبارة المشتملة على التناقض الظاهر الذی لا یفهم المستمع منه شیئاً یرکن إلیه.

ویؤیّده تکرار قوله: «وقال»، وکذا ذکر اسم الظاهر (العذرة) فی الفقرة الثانیة بدل الضمیر.

ویتحصّل من جمیع ذلک أنّ القول بالحرمة هنا بالخصوص بملاحظة الأدلّة الخاصّة إن لم یکن أقوى فلا أقل من إنّه أحوط، وإن کان مقتضى العمومات الجواز.

ثمّ إنّ العذرة ظاهرة فی عذرة الإنسان کما صرّح به أهل اللغة.

قال فی لسان العرب: العذرة والعاذر: الغائط الذی هو السلح، وفی حدیث ابن عمر، أنّه کره السلت الذی یزرع بالعذرة، یرید الغائط الذی یلقیه الإنسان، ثمّ قال: العذرة فناء الدار، وفی حدیث علی(علیه السلام) إنّه عاتب قوماً فقال: ما لکم لا تنظّفون عذراتکم، أی أفنیتکم، وقیل: العذرة أصلها فناء الدار، وإنّما سمّیت عذرات الناس بهذا لأنّها کانت تلقى بالأفنیة، فکنّى عنها باسم الفناء، کما کنّى بالغائط، «وهی الأرض المطمئنة» عنه(9) انتهى محلّ الحاجة منه.

ومن هنا یعلم أنّ حمل بعض الروایات على عذرة غیر الإنسان بعید جدّاً.

وممّا ذکرنا لا یبقى وجه لما حکی عن المفید وسلاّر من عدم جواز بیع الأرواث والأبوال کلّه(10) بل ما یترتّب علیها نفع معتدّ به یجوز بیعه إن کان طاهراً، وإن کان نجساً أیضاً، ما عدا عذرة الإنسان المنصوص علیها بالخصوص.

بقى هنا شیء، وهو أنّ الأرواث والأبوال الطاهرة لا مانع من بیعها إذا کانت لها منفعة محلّلة معتدّ بها، وهی فی الأرواث ظاهرة، أمّا فی الأبوال خفیة، والإستشفاء ببعض الأبوال فی بعض الأزمنة کما یظهر من عدّة روایات غیر کاف بالنسبة إلى زماننا هذا الذی لا یعدّ ذلک من منافعها.

1. الخلاف، ج 2، ص 82، المسألة 310.
2. کما جاء فی جواهر الکلام، ج 22، ص 19.
3. کما جاء فی جواهر الکلام، ج 22، ص 19.
4. وسائل الشیعة، المجلّد 12، الصفحة 126، الباب 40، من أبواب ما یکتسب به، الحدیث 1.
5. المصدر السابق، ح 3.
6. المصدر السابق، ح 2.
7. الحدائق، ج 18، ص 74، وجواهر الکلام، ج 22، ص 19.
8. المکاسب المحرّمة، للإمام الخمینی(قدس سره)، ج 1، ص 8.
9. لسان العرب، ج 4، ص 544، مادّة «عذر»، ط ـ حة ـ بیروت ـ ج 9، ص 108.
10. وسائل الشیعة، ج 17، ص 87، الباب 59، من أبواب الأطعمة المباحة.