هناک أصلان یعدان من الاُصول المسلّمة فی الإسلام:

أبدیة الإسلام وعالمیته، فالإسلام لاینحصر بزمان، دون زمان وبمکان دون مکان، ولا قوم دون قوم، بل یجری مجرى الشمس والقمر، مدى الدهور والاعصار، وفی مختلف انحاء العالم، یضیء ویشرق على الجمیع إلى آخر الدنیا وفی جمیع الأقطار.

یدلّ علیهما ما ورد فی القرآن من التعبیر بقوله تعالى: «یا أیّها الناس، ویا بنی آدم، ویا آیها الذین آمنوا، ویا أیّها الإنسان، ویا عبادی» فی آیات کثیرة تدلّ على أن المخاطب بها جمیع البشر من زمان نزولها إلى آخر الدنیا، وفی کلّ مکان من الأمکنة، وکلّ بقعة من بقاع الأرض.

ویدلّ على الثّانی بالخصوص آیة الخاتمیة: (ما کان محمّد أبا أحد من رجالکم ولکن رسول الله وخاتم النبیین)وغیر ذلک ممّا ورد فی القرآن الکریم من قوله تعالى (وما أرسلناک إلاّ رحمة للعالمین) وشبهه.

وفی السنّة روایات کثیرة لیسنا بصدد ذکرها الآن، وقد صار هذان الأصلان من الواضحات یعرفه کلّ من له المام بالإسلام.

ثمّ إذا کان الإسلام دیناً عالمیاً ابدیاً لنوع البشر، مع أن المجتمعات لاتزال فی تطور وتغییر، ولا تزال حوائجهم تختلف وتزداد وتتنوع وتتشعب، مع کون قوانین الإسلام ثابتة مؤیدة، یُتسائل أنه کیف ینطبق ذاک الأمر المتغیر دائماً، على هذه القوانین الثابتة دائماً ؟ وهل یمکن الجمع بینهما ؟ مع أنّا نرى القوانین فی المجتمعات الإنسانیة ـ مرادنا القوانین التی وضعتها ایدی البشر ـ تتغیر دائماً کی تنطبق على مراداتهم، فالإسلام یجعل قوانینه ثابتة ومع ذلک یقضی بها حوائج الناس فی جمیع اقطار العالم وجمیع الاعصار، وهذه مسألة مهمّة عجیبة.

وقد فاز الإسلام فی هذا المیدان فوزاً عظیماً، والسرّ فیه مضافاً إلى أن واضع القانون هنا هو الله، العالم بالسرائر، والواقف على الضمائر، وهو الخالق للإنسان الخبیر بحاجاته المادیة والمعنویة، فإن فی الإسلام اُصولاً کلیة، وقوانین جامعة، لها شمول کثیر، ودوائر واسعة، وخطوط عریضة، تزدهر زماناً بعد زمان، وتتغیر مصادیقها وتبقى ذواتها، مثل «اوفوا بالعقود» و «المؤمنون عند شروطهم»، و «ما حکم به العقل حکم به الشرع» وغیرها من اشباهها.

اضف إلى ذلک، القواعد الکثیرة المشتملة على العناوین الثّانویة مثل «قاعدة لا ضرر» و «قاعدة لا حرج» و «الضرورة» و «لزوم ما یتوقف علیه حفظ النظام»، و «قاعدة الأهم والمهم عند تزاحم المصالح» وأشباهها.

فکم من مشکلة عظیمة انحلت بفضلها، وکم من عویصة غامضة مظلمة انکشفت فی ضوء أنوارها، فأحکام العناوین الثّانویة من أهم أسباب الحکومة الإسلامیة لحلّ المعضلات.

ولکن هنا أمران یجب التنبیه علیهما، والتحذیر منهما کلّ الحذر.

الأول: أنه لیس معنى هذا الکلام، اتباع الأهواء والجری على وفق جریان الماء وأخذ الأحکام الأولیة کشمعة یصنع بها ما یشاء، ویتلاعب بها کیف یراد.

بل لابدّ من الدقّة، وکمال الدقّة، فی کشف مصادیقه والأخذ بما هو مقتضى الحزم والاحتیاط فیها، فإن الأمر هنا صعب مستصعب، وقد خفى على بعض من لا خبرة له بالفقه حتّى أصبحت أحکام الله تعالى تابعة لمیولهم، رغم حکم الإسلام بوجوب الخضوع لأحکام الله تعالى، وقوله تعالى (فلا وربک لا یؤمنون حتّى یحکموک فیما شجر بینهم ثمّ لایجدون فی أنفسهم حرجاً ممّا قضیت ویسلموا تسلیما)(1).

وقد سمعنا أنه أتت بعض النساء من العوام إلى القاضی تدّعی العسر والحرج فی البقاء مع زوجها وتطلب الطلاق بذرائع واهیة (مثل أن زوجها له عادة سیئة عند الأکل والشرب أو فی الملبس والمشرب أو غیر ذلک).

فلابدّ للفقیه أن یصمد تجاه هذه الأهواء التی قد تفرغ الإسلام من محتواه، فالافراط باطل، کما أن التفریط وترک التمسّک بهذه العناوین لحلّ المعضلات العدیدة الاجتماعیة بدعوى التقدس والاحتیاط أیضاً من أهواء الشیطان ومکائده.

الثّانی: إن بعض العناوین الثّانویة ممّا تختص بحالة الضرورة وشبهها لایمکن الأخذ بها فی کلّ حال وجعلها کقانون مستمر فی حال الاختیار، ولایمکن بناء أکثر أحکام الشرع علیها وحلّ جلّ المشکلات بها. بل لابدّ من اللجوء إلى العناوین الأولیة والقوانین المتخذة منها فإنها العمدة فی حلّ المعضلات الاجتماعیة، ولو بذلنا الجهد فی هذا السبیل لظفرنا بالمقصود قطعاً، ثمّ نأخذ من العناوین الثّانویة لحالات خاصّة وظروف معیّنة.

والحاصل أن القول بأنه لا تدور رحى المجتمعات البشریة الیوم إلاّ مدار عناوین الضرورة والاضطرار، والضرر والضرار، قول فاسد، ومفهومه أن حیاة الإسلام وقوانینه (نعوذ بالله) قد انقضت، ودورها قد انتهى، فیکون کالمریض الذی لاتستمر حیاته إلاّ بالتغذیة عن طریق وریده فقط.

نعم لاشکّ أنه قد یکون فی عمر الإنسان ساعات لایمکن التحفظ على حیاته إلاّ بهذا الطریق، ولکن لو أن إنساناً لایعیش أبداً إلاّ بهذا الاُسلوب، ولایقدر مدى حیاته على التغذیة کما هو المتعارف، ففی الحقیقة قد تمت حیاته وانقضت أیّامه، ولم یبق له شیء، وکذلک قد تکون فی البلاد اضطرابات لا تمکن الغلبة علیها إلاّ بالتوسل بالقوّة العسکریة، ولکن هذا خاصّ ببرهة من الزمان، فلو أن بلداً من البلاد وحکومة من الحکومات لایقوم أمرها إلاّ بهذا النحو من الحکومة کان دلیلاً على اضمحلالها من أصل، وعلى أن دورها قد انتهى، وهکذا الإسلام لو قلنا أنه لایبقى له شیء إلاّ من طریق الأحکام الثّانویة الاضطراریة وهذا أمر ظاهر لا ستر علیه.

وملخص الکلام، أنه لیس دور هذا القسم من العناوین الثّانویة الاضطراریة إلاّ حل المعضلات الناشئة عن الازمات الاجتماعیة والاقتصادیة، ولایمکن التمسّک بها فی کلّ الحالات وجمیع الظروف.

وبعبارة أوضح لو قلنا أن نظام الاُمّة الإسلامیة فی زماننا هذا لایتم إلاّ بالأخذ بالعناوین الثّانویة الاضطراریة فی جمیع الاُمور فقد اعترفنا بنقص قوانین الإسلام وعدم احتفاظها على مصالح البشر فی عصرنا هذا، وإلاّ کانت العناوین الأولیة من أحکامه تعالى کافلة لهذه المهمة.

وهذا الاعتراف العملی، خطأ عظیم وذنب لایغفر ونعوذ بالله منه.

(1) النساء: 65.