المقدّمة الثانیة

SiteTitle

صفحه کاربران ویژه - خروج
ورود کاربران ورود کاربران

LoginToSite

SecurityWord:

Username:

Password:

LoginComment LoginComment2 LoginComment3 .
SortBy
 
بحـوث فقهیة مهمّة
3 ـ نماذج من المسائل المستحدثة(1) تعریفها

فی بیان اُسس العامة للمسائل المستحدثة:

 

من الواضح أنّ هذه المسائل المستحدثة وأشباهها ممّا لم یرد فیها نصّ خاصّ، فمن اللازم ذکر الأدلّة التی تعتمد فی بحثها.

 

وینبغی لنا أولاً ذکر القواعد الکلیة التی یمکن إرجاع المسائل المستحدثة إلیها من باب ردّ الفروع إلى الاُصول الذی هو وظیفة المجتهد، ثمّ بعد ذلک نتعرّض لکلّ واحدة منها مفصّلاً وبیان أحکامها وما ینطبق علیها من القواعد والاُصول.

 

فنقول ـ ومن الله نستمد التوفیق والهدایة : لابدّ هنا من رسم اُمور خمسة:

الأمر الأول: إنّه ینبغی أن یعلم أنّ طریقة البحث فی هذه المسائل المستحدثة وأشباهها عند الشیعة تختلف عمّا هو علیه عند إخواننا أهل السنّة; وذلک لاختلاف المبانی الاُصولیة لکلّ من الفریقین، حیث إنّ أصحابنا یتمسکون بالنصوص الخاصة والعامّة وأیضاً بالقواعد الکلیّة المأخوذة من الأدلّة المعتبرة ـ الکتاب والسنّة والإجماع القطعی ـ ولا رکون لهم فی شیء من ذلک إلى الظنون. فإنّ الاجتهاد عندنا إنّما هو استنباط الأحکام الشرعیة الفرعیة عن أدلّتها، وإنّ لکلّ واقعة حکماً شرعیاً مجعولاً یکون المجتهد دائماً بصدد الوصول إلیه، سواء وصل إلیه أم لا.

 

وإن شئت قلت: قد ثبت بالأدلّة أنّ لکلّ واقعة حکماً فی الشریعة الإسلامیة علمنا به أو لم نعلم، وهذه الأحکام الواقعیة کانت مودعة عند رسول الله (صلى الله علیه وآله) وبعده عند أوصیائه المعصومین (علیهم السلام)، فالحوادث الواقعة لا تخلو من الأحکام الواقعیة، إلاّ أنّنا إذا لم نظفر بحکم واقعی نظفر بحکم ظاهری قطعاً; لما قد ثبت عندنا من أنّ الفقیه إمّا یعلم الحکم الواقعی أو یظن به ظناً معتبراً دلّت الأدلّة القطعیة على اعتباره ـ أی الأمارات ـ أو یشک، وعند الشک یرجع إلى أحد الاُصول العملیة المعتبرة ـ أی البراءة والاستصحاب والتخییر والاحتیاط ـ وهذه الاُصول حاصرة لموارد الشکّ طرّاً لایشذّ منها شاذّ، فإذن لا فراغ فی الشریعة لا واقعاً ولا ظاهراً، ووظیفة المجتهد هی عملیة اکتشاف وتحصیل الحکم الموجود فی الشریعة. هذا هو الاجتهاد لدى الشیعة الإمامیة.

 

أما الاجتهاد لدى أهل السنّة فإنّه مباین لما عندنا; وذلک لاعتمادهم فی الإفتاء فی مثل هذه المسائل على القیاس الظنی والاستحسان والمصالح المرسلة وسدّ الذرائع بما لها من معان عندهم، ولا ینحصر الاجتهاد ـ حسب اعتقادهم ـ فی حدود النصوص، ویمکن القول إنّ الاجتهاد عندهم فی الجملة على أقسام ثلاثة:

 

أوله: وهو المسمّى عندهم بالاجتهاد البیانی الذی هو نحو ما ذکرنا آنفاً من استنباط الحکم الشرعی من النصوص.

 

ثانیه: تشریع الحکم وجعله فی ما لا نصّ فیه، فإنّ المجتهد هنا یُستعمل رأیه الخاصّ وفهمه فی تشخیص الحکم الشرعی إما على أساس القیاس الظنی أو على أساس مبدأ الاستحسان أو على أساس مبدأ المصالح المرسلة أو على أساس مبدأ سدّ الذرائع، کما هو مشروح عندهم، ویکون هذا الحکم المجعول من قبل المجتهد بمنزلة حکم الله تعالى، وذلک بمقتضى قولهم بالتصویب.

 

وهو کما ترى; فإنّ الظنّ لایغنی من الحقّ شیئاً، إنّما لجأوا إلى ذلک لشحّة المصادر والنصوص المتوفرة لدیهم; حیث حرموا أنفسهم من الانتفاع والانتهال ممّا صدر عن العترة الطاهرة من روایات وأحادیث کثیرة، فوقعوا فی ما وقعوا فیه.

 

وقد حذّر رسول الله (صلى الله علیه وآله) من مغبّة ذلک فی الحدیث المتواتر بین المسلمین: «إنّی مخلّف فیکم الثقلین کتاب الله وعترتی»(1).

 

ثالثه: الاجتهاد فی مقابل النصّ، وبعض أمثلته معروفة، نحو ما حکی عن عمر من قوله: «متعتان کانتا محلّلتین فی زمن النبی (صلى الله علیه وآله) وأنا اُحرّمهما واُعاقب علیهما»(2).

 

وهذا القسم کسابقه غیر مقبول عندنا; إذ لیس من حق المجتهد أن یشرّع، بل علیه أن یبذل ما فی وسعه للوصول إلى الأحکام الواقعیة المجعولة من خلال النصوص الخاصّة والعامّة والقواعد الکلیّة التی هی طرق إلیها.

 

وقد ذکرنا ذلک مفصّلاً فی محلّه من أبحاث الاجتهاد والتقلید.

 

الأمر الثانی: هل للزمان والمکان تأثیر فی الاجتهاد

 

المعروف لدى جمع من أکابر المعاصرین أنّ للزمان والمکان تأثیراً ودخلاً فی الاجتهاد، فما هو المراد من ذلک وکیف تتغیر الأحکام باختلاف الأمکنة والأزمنة مع أنّها عامة لکلّ زمان ومکان !

 

لایخفى أنّ جذور هذا البحث موجودة فی کلمات القدماء والمتأخرین أیضاً، ومهما یکن فإنّ لهذا الکلام ثلاث معان، بعضها باطل وبعضها صحیح:

 

أولّها ـ وهو معنى ساذج لایقول به أحد من فقهائنا; وحاصله أن یقال: إنّه لابدّ أن یکون الفقیه تابعاً للزمان والمکان، فإذا شاع المصرف الربوی فاللازم علیه الإفتاء بحلّیة هذا النوع من الربا، وإذا کان الفقیه فی مکان شاع فیه السفور وتبرّج النساء فاللازم الإفتاء بجواز ذلک، فهو إذن تابع لمقتضى الزمان والمکان. وهذا خیال فاسد لایقول به فقیه من فقهاء الإسلام.

 

ثانیها ـ أن یقال: لیس المراد منه تغییر الحکم بدون تغییر الموضوع; فإنّ حلال محمّد (صلى الله علیه وآله) حلال إلى یوم القیامة وحرامه حرام إلى یوم القیامة(3)، بل إنّما یقع التغیّر والتبدّل فی الحکم من ناحیة تبدّل الموضوعات.

 

توضیح ذلک: إنّ فی کلّ حکم من الأحکام ثلاثة عناصر: (نفس الحکم ـ المتعلّق ـ الموضوع)، ففی مثلقولن: «یحرم شرب الخمر» التحریم هو الحکم، والشرب هو المتعلّق، والخمر هو موضوع، وکذلک فی قولنا «یجب تطهیر المسجد» الوجوب هو الحکم، والتطهیر هو المتعلّق، والمسجد هو الموضوع، ولکن قد لایکون هناک إلاّ الحکم والمتعلّق کالحکم بوجوب الصلاة والصیام; لعدم تعلّقهما بأمر خارجی، وهنا قد یسمى المتعلّق موضوعاً، ویقال: الوجوب هو الحکم والصلاة موضوعه.

 

ومن الواضح أنّ کلّ حکم یدور مدار موضوعه، ونسبته إلیه تشبه نسبة المعلول إلى علّته أو المعروض إلى عرضه. وإنّما قلت: تشبه، ولم أقل إنّه هو هو; لعدم جریان هذه العناوین ـ أعنی العلّیة والعروض ـ فی الاُمور الاعتباریة.

 

وعلى کلّ حال، لازم ذلک أنّه إذا تغیّر الموضوع تغیّر الحکم بتبعه، ومن الواضح أنّه قد یکون للزمان والمکان دخل فی تبدّل الموضوعات الخارجیة.

 

ومثاله المعروف فی کتاب البیع: أنّ مالیة المال ـ الذی هو قوام صحّة بیعه وشرائه ـ تتغیّر بتغیّر الزمان والمکان، فالماء على الشاطىء لا مالیة له أحیاناً، وفی المفازة له مالیة کبیرة (هذا من ناحیة المکان)، والثلج فی الشتاء لا مالیة له، ولکنه فی الصیف له مالیة کبیرة عادة (هذا من جهة الزمان)، وهکذا فی غیرهما ممّا یشبههما من الأمثلة.

 

ولیعلم أیضاً أنّ الحکم یؤخذ من الشارع المقدّس، والموضوعات العرفیة تؤخذ من أهل العرف. نعم، الموضوعات المخترعة من قِبل الشارع مثل الصلاة والصوم وسائر العبادات إنّما تؤخذ من الشارع فقط.

 

ومن الواضح أنّه قد تتبدّل الموضوعات فی نظر العرف من جهات متعدّدة، فیکون الحکم تابعاً له ودائراً مداره; ولذا یقال: بخار النجس ودخانه لیس نجساً، والکلب إذا وقع فی المملحة وخرج عن عنوان الکلب وصدق علیه عنوان الملح کان طاهراً، حتّى إنّه لو شک فی بقاء النجاسة لم یصح إجراء الاستصحاب; للشک فی بقاء الموضوع وتغیّره حتّى على القول بجریان الاستصحاب فی الأحکام الشرعیة.

 

ثمّ أعلم أنّ تغیّر الموضوع على أنحاء ثلاثة:

 

فتارة: تنقلب ماهیته العرفیة وتستحیل إلى غیرها، کاستحالة الکلب ملحاً والفحم دخاناً، فإنّ الملح عنوان مباین ومغایر لعنوان الکلب فی أنظار العرف، فتغیّر الحکم بسببه واضح.

 

واُخرى: یکون تبدّل بعض أوصافه الظاهریة إلى موضوع آخر وإن لم یکن مبایناً له، کانقلاب الخمر خلاًّ; فإنّ الفرق بینهما وإن لم یکن عرفیاً کما فی المثال السابق، ولکنّه أیضاً موضوع آخر، فتبدّل الحکم هنا أیضاً واضح; لانتفاء الموضوع السابق.

 

وثالثة: یکون بتغیّر بعض أوصافه المعنویة والاعتباریة المقوّمة، کسقوط الماء عن المالیة عند الشاطىء، وصیرورة الدم مالاً فی أعصارنا، وکذا بالنسبة إلى أعضاء البدن عند الانتفاع بها فی الترقیع وشبهه.

 

فتبدّل الحکم هنا أیضاً ظاهر; لتبدّل ما هو مقوّم من الصفات، وإذا تبدّلت الأوصاف غیر المقوّمة کان مجرى للاستصحاب، نحو المثال المعروف فی زوال التغیّر عن الماء المتغیّر بنفسه.

 

أما إذا بقی الموضوع على حاله من حیث الماهیة والأوصاف المقوّمة للموضوع فالحکم باق إلى الأبد; لأنّ تغیّره والحال هذه لا یکون إلاّ بالنسخ، والمفروض انتفاؤه بعد رحیل الرسول (صلى الله علیه وآله).

 

ویمکن حلّ غیر واحدة من المسائل السابقة من هذا الطریق:

 

منها ـ إنّ بیع الدم لم یکن جائزاً فی الأزمنة السابقة; لعدم وجود منفعة محلّلة فیه، ولانحصار منفعته فی الأکل المحرّم، ولکن تبدّل الزمان أوجد له منافع محلّلة کثیرة، کإنقاذ بعض المرضى والمجروحین من الهلاک، فجاز بیعه لهذه المنفعة المهمّة الغالبة حیث لا دلیل لنا على بطلان بیع النجس مطلقاً.

 

ومنها ـ بیع أعضاء البدن کالکلیة والقلب وقرنیة العین; فإنّها وإن کانت ممّا لا ینتفع بها فی سابق الأیّام منفعة محلّلة مقصودة، إلاّ أنّه ینتفع بها فی عصرنا أعظم المنافع التی قد توجب نجاة نفس إنسان من الهلاک أو من العمى.

اللّهم إلاّ أن یستشکل فی بیعها من جهة أنّه میتة وإن کان لها منافع کثیرة، کالأدیم المأخوذ من المیتة الذی ینتفع منه منافع کثیرة ومع ذلک لایجوز بیعه، کما لعلّه یظهر من کثیر منهم; ولذا قلنا فی محلّه إنّ الأحوط جعل العوض المأخوذ فی مقابل الإذن بأخذ الکلیة منه، لا فی مقابل نفس الکلیة.

ومنها ـ مسألة الترقیع بجلد مأخوذ من إنسان حی أو میت، فیقال إنّ اتصاف الجلد بالنجاسة إنّما هو إذا قطع عن بدن إنسان ولم یتصل ببدن إنسان آخر، أمّا إذا اتصل به وجرى الدم والحسّ فیه اتصف بصفة الحیاة وخرج عن عنوان المیتة، بل وصدق علیه أنّه من أعضاء هذا الإنسان الذی انتقل الیه العضو، لا من أعضاء الإنسان السابق.

 

کما یقال فی مسألة انتقال دم الإنسان إلى البقّ: إنّه إذا انتقل إلیه وصدق دم البقّ علیه اتصف بالطهارة بعد أن کان نجساً.

 

ومنها ـ مسألة المالیة فی النقود الورقیة; فإنّ المالیة أمر اعتباری، وکثیراً ما یکون اعتبارها بید العرف والعقلاء، فإذا اعتبرها العرف والعقلاء فی أوراق خاصة ـ لعلل سیأتی بیانها إن شاء الله فی محلها ـ جاز جعلها ثمناً فی البیع والإجارة وغیرهما من المعاوضات، وإذا اُبطل اعتبار قسم منها بطلت مالیتها، فتصبح ورقة عادیة فاقدة للقیمة، وربّما تلقى فی سلّة المهملات.

 

ومنها ـ ما قد یقال فی مسألة کثرة النفوس والنسل ـ ولا أقول هذا إلاّ احتمالاً ـ من أنّ تأکید الشارع المقدّس على المباهاة بکثرة المسلمین إنّما کان فی زمن کان هذا سبباً لمزید القوّة والشوکة، فالموضوع فی الحقیقة کثرة النفوس الموجبة لذلک، کما یظهر من آیات کثیرة فی الکتاب العزیز بعضها وقع فی کلام الله تعالى أو بعض أولیائه وبعضها حکی عن الکفّار:فمن الأول قوله تعالى فی سورة نوح: (وَ یُمْدِدْکُم بِأَمْوال وَ بَنِینَ)(4) فقد کان البنون کالأموال سبباً للقوّة، وقوله تعالى: (وَ أَمْدَدْنَاکُم بِأَمْوال وَ بَنِینَ وَ جَعَلْنَاکُمْ أَکْثَرَ نَفِیراً)(5)، وقوله تعالى: (کَالَّذِینَ مِن قَبْلِکُمْ کَانُواْ أَشَدَّ مِنکُمْ قُوَّةً وَ أَکْثَرَ أَمْوالاً وَ أَوْلاَداً)(6).

 

ومن الثانی قوله تعالى: (وَ قَالُواْ نَحْنُ أَکْثَرُ أَمْوالاً وَ أَوْلاَداً وَ مَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِینَ)(7).

 

فقد کانت کثرة الأولاد مثل کثرة الأموال سبباً للقوّة والشوکة والعظمة، فلو تغیّر هذا الموضوع فی زمان وصارت الکثرة سبباً لمزید الضعف والتأخّر والذّلة والحقارة ـ کما یحکى ذلک کثیراً عن أهل الهند، حیث بلغت کثرة النفوس فیها إلى حدّ سبّب فی موت الکثیر منهم من شدّة الجوع، وکذلک مسألة السکن حتّى قیل إنّ أعداداً هائلة من الناس یتّخذون من أطراف الشوارع والممرّات مساکن لهم فیها یتکاثرون وفیها یموتون، ولیس لهم من أسباب الحیاة شیء ـ فهل تکون کثرة النسل راجحة فی نظر الشرع !

 

لا أقول: إنّ کثرة المسلمین قد وصلت إلى هذا الحدّ أو لا، بل أقول: لو ادّى الأمر إلى هذا الحدّ فهل هو شیء یباهی به رسول الله (صلى الله علیه وآله) سائر الاُمم ! أو إنّ اللازم على المسلمین فی هذه الأعصار الاهتمام بالکثرة من ناحیة الکیفیة ـ أعنی الزیادة فی العلم والقوّة الفکریة والثقافیة والصناعیة والأخلاقیة ـ لا الکثرة فی کمیة الأفراد الفاقدة لذلک; فإنّ کثرتهم والحال هذه کثیراً ما تمنع عن بلوغ المرتبة المطلوبة، وسیأتی بیان ذلک إن شاء الله.

 

وقد یؤید ذلک کلّه بما ورد فی بعض الکلمات القصار لأمیرالمؤمنین (علیه السلام) ـ بعد أن سئل عن قول رسول الله (صلى الله علیه وآله)«غیّروا الشیب ولا تشبَّهوا بالیهود» ـ قال: «إنّما قال (صلى الله علیه وآله) والدِّین قُلٌّ، فأما الآن وقد اتسع نطاقه وضرَب بِجِرانه فامرؤٌ وما اختار»(8)، وللکلام صلة.

 

ولاینحصر الکلام بهذه المسائل الخمس، بل المراد توضیح أنّ المفتاح الأصلی الوحید لحلّ قسم کبیر من المسائل المستحدثة هو هذا المعنى; أی تبدّل الحکم بتبدّل الموضوعات عرفاً.

 

وعصارة الکلام: أنّ الأحکام المأخوذة من الشارع المقدّس ثابتة لا تتغیّر مدى القرون والأعصار ولا تتبدّل بحسب اختلاف الأمکنة والأمصار، فالحلال حلال دائماً والحرام حرام کذلک، ولکن الموضوعات العرفیة متغیرة دائماً، فکلّما تغیّر الموضوع تغیّر الحکم، حیث إنّ الموضوع کثیراً ما یکون متأثّراً بالزمان والمکان، فإذا تغیّر الزمان والمکان تغیّر الموضوع فیتغیّر الحکم تبعاً له.

 

وتغیّر الموضوع على أقسام مختلفة: تارة یکون بتبدّل الماهیة کما فی الکلب الواقع فی المملحة، واُخرى بتبدّل أوصافه الخارجیة کتبدّل الدم من جسم الإنسان إلى البقّ، وثالثة بتبدّل الاُمور الاعتباریة کتبدّل المالیة. وهذا هو المراد من تأثیر الزمان والمکان فی الاجتهاد.

 

ثالثه: هو أنّ تبدّل الزمان والمکان قد یکون سبباً لتنبّه الفقیه إلى مسائل جدیدة وانشراح فکره وصدره، فیلتفت إلى اُمور لم یکن متنبهاً لها فی السابق، سیّما بعد قیام الحکومة الإسلامیة، ولکن لا بمعنى أنّه إذا کان خارجاً عن هذه الدائرة کانت له أفکار خاصّة وإذا دخل تبدّلت أفکاره، بل بمعنى التفاته إلى حاجات ومصالح النظام والاُمة.

 

فمثلاً یتنبّه إلى أنّ تحصیل العلم ـ الأعمّ من کونه دینیاً أو دنیویاً ـ الذی کان یعدّه فی الماضی من الواجبات الکفائیة، یعدّه الآن من الواجبات العینیة; لما یشعر من حاجة المسلمین الماسّة إلى ذلک فی تدبیر اُمور الدین والدنیا، فإنّ الجماعة الجاهلة تصبح متأخّرة جدّاً وضعیفة إلى النهایة، ولا یرضى الله ورسوله (صلى الله علیه وآله) والأئمّة الهداة (علیهم السلام) هذا التأخر والضعف للمسلمین، ولذا یفتی الفقیه بوجوب الجهاد لمحاربة الجهل وبوجوب تحصیل العلم عینیاً على جمیع المسلمین کلّ حسب استعداده.

 

إذن، فقد أثّر الزمان فی فتوى المجتهد لتنبّهه إلى حیثیات جدیدة وجهات مستحدثة، ونحو ذلک.

 

الأمر الثالث: فی الاُمور التی تبتنی علیها هذه المسائل:

 

من المعروف أنّ القضیة على قسمین: خارجیة وحقیقیة.

 

فالقضایا الخارجیة ما یکون الحکم فیها ثابتاً على الأفراد الموجودة فی الخارج، مثل ما إذا قلت: إنّ لی صلة بجمیع العلماء; أی العلماء الموجودین، لا کلّ من یصدق علیه العالم الیوم وفی سابق الزمان ومستقبل الأیّام، وکذا إذا قلت: أعطِ کلّ من فی المعسکر مئة درهم، کان النظر إلى الموجودین فی الخارج.

 

أما القضایا الحقیقیة فالحکم فیها تابع لموضوعاتها التی یقدّر وجودها فی الحال أو فی الماضی أو فی المستقبل، وقد لایکون لها مصداق فعلاً فی الخارج ولکن الحکم صادق، کقولن: النار حارّة، فإنّها تشمل جمیع المصادیق المقدّرة سواء فی الماضی أو الحال أو المستقبل.

 

ولا ینبغی الشک فی أنّ أغلب الأحکام الشرعیة التی وردت بصورة القضایا ـ سواء کانت بصورة الإخبار، کقوله (صلى الله علیه وآله): «المؤمنون عند شروطهم»(9) أو الإنشاء کقوله تعالى: (أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ)(10) وأمثال ذلک ـ فإنّها على نحو القضایا الحقیقیة لا الخارجیة، وحینئذ لا تنحصر مصادیقها بما کان موجوداً فی عصره (صلى الله علیه وآله) والأئمّة المعصومین (علیهم السلام)، بل تشمل جمیع المصادیق التی توجد لها فی کلّ زمان ومکان ما لم یقم دلیل على خروجها واستثنائها کما لایخفى، لا سیّما الآیات القرآنیة بعد التصریح بأنّها لجمیع العالمین إلى یوم القیامة، حتّى إذا کانت الخطابات بصورة خطابات المشافهة.

 

ومن هنا نقول: إنّ أحکام المسافر تشمل المسافرین بالوسائل السریعة فی عصرنا، ولا تختص بالأسفار فی الأزمنة القدیمة، ما لم یقم دلیل على الاختصاص، ولم یقم قطعاً.

 

کما أنّ الأحکام الخاصّة بماء الحمّام تشمل الحمامات الموجودة فی عصرنا مع مفارقتها عمّا کان فی قدیم الأیّام من جهات کثیرة.

 

وکذا أحکام البئر فإنّها تشمل الآبار العمیقة المستحدثة فی عصرنا أیضاً.

 

وکذا حکم القیمی والمثلی بالنسبة إلى مصنوعات کثیرة وجدت الآن ولم تکن سابقاً، کأنواع الألبسة والأغذیة ووسائط النقل والأثاث المنزلیة وغیرها، فقد کانت تعدّ من القیمی وتعدّ الیوم من المثلی، وغیر ذلک.

 

ولو کانت الأحکام الشرعیة على نحو القضایا الخارجیة لم تشمل شیئاً من هذه المصادیق، بل کانت ناظرة إلى خصوص المصادیق الموجودة فی عصرهم (علیهم السلام)، وأما غیرها فلا تندرج تحت هذه العمومات.

 

ومن هنا یمکن حلّ کثیر من المسائل السابقة; لشمول الأدلّة للمصادیق المستحدثة.

 

وإن شئت قلت: تنحلّ عقدتها بالتمسّک بالإطلاقات والعمومات ما لم یقم دلیل على تقییدها أو تخصیصها، وهذه قاعدة عامة ثابتة فی علم الاُصول.

 

وإلیک نماذج من المسائل السابقة تجری فیها هذه القاعدة:

 

منها ـ جریان (أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ) فی العقود المستحدثة، کالتأمین، فإنّه أیضاً عقد، فیدخل تحت عموم «أوفوا»، ولا معنى لتخصیصه بالعقود الموجودة فی عصر التشریع فقط، بل یشمل جمیع العقود المتعارفة بین العقلاء.

 

ومنها ـ أنواع الشرکات المستحدثة یومیاً، حیث إنّ بعضها مشمول للأدلّة.

 

ومنها ـ السرقفلیة إذا کانت بصورة عقد جدید، لا من قبیل الشرط فی ضمن عقد الإجارة، کما سیأتی مفصّلاً إن شاء الله.

 

ولکن لابدّ أنّ تتحقّق فی جمیع تلک العقود الشرائط العامة الواجبة شرعاً فی العقود; من معلومیة العوضین ـ لو قلنا بجریان حکم الغرر فی جمیع العقود ـ وکونه على أمر محلّل، وعدم کونه من قبیل التعلیق فی الإنشاء، وکون العاقد عاقلاً بالغاً رشیداً مختاراً، إلى غیر ذلک ممّا یعتبر فی جمیع العقود.

 

ومنها ـ صحة المضاربة بالنقود الورقیة، بل وصحة بذل رأس المال للزراعة والصناعة وغیرها وإن لم تُسمَّ مضاربة ولم تجرِ علیها أحکام المضاربة لو کان لها أحکام خاصة بها. فإذا بذل إنسان مالاً إلى آخر وقال: منی رأس المال ومنک الصناعة ولک نصف منافعها، کان هذا داخلاً فی عمومات وجوب الوفاء بالعقد و«المؤمنون عند شروطهم» وشبههما، فیجوز ابتیاع سهام المؤسسات الصناعیة وتقسیم منافعها بین العاملین علیها والذین یملکون سهامها; لأنّه عقد عرفی جامع للشرائط الشرعیة، فهی داخلة تحت عموماتها وإن لم تدخل تحت العناوین المعروفة.

 

ومنها ـ إجراء العقود بالهاتف وشبهه فهو أیضاً داخل فی عمومات الباب، وأما حکم خیار المجلس ففیه کلام یأتی عند الکلام عن هذه الفروع تفصیلاً إن شاء الله.

 

الأمر الرابع: إنّ إطلاقات الأدلّة اللفظیة شاملة لکلّ مصادیق موضوع الحکم الشرعی، ولا تنحصر فی حدود المصادیق المتحققة فی فترة صدور النصّ أو ما یقاربها، بل إنّ الإطلاقات تطال ما یتحقّق فی زماننا من مصادیق مستجدّة أیضاً، إلاّ أنّه قد یکون هناک من الجهات والحیثیات ما یوجب انصراف الإطلاقات عن بعض المصادیق المستحدثة، وحینئذ لا یجوز الأخذ به والقول بشموله.

 

توضیح ذلک: إنّ المعروف أنّ شمول الإطلاق لجمیع مصادیق الموضوع ثابت بمقدمات الحکمة، والمعروف أنّها أربع:

 

1 ـ کون المتکلم فی مقام البیان، 2 ـ عدم صدور البیان، 3 ـ عدم انصراف المطلق إلى بعض أفراده، 4 ـ عدم وجود القدر المتیقّن فی مقام التخاطب.

 

أما الرابعة فهی مردودة عندنا; فإنّه قلّما یوجد إطلاق لیس له قدر متیقن، ولازمه سقوط غالب المطلقات، لاسیّما ما له شأن نزول أو شأن ورود، ولا أظنّ أحداً یلتزم به، کیف ! والمعروف أنّ الورود وکذا شأن النزول لا یخصص، وأما باقی المقدمات فهی حقّ لا ریب فیه، وأما منشأ الانصراف فهو اُنس الذهن ببعض المصادیق لأسباب متنوّعة من قبیل غلبة الوجود; وذلک مثل ما یقال فی أشبار الکرّ وأنّها منصرفة إلى المتوسط الغالب لا المفرط فی الکبر والصغر النادرین، وکذا فی مقدار الوجه فی الوضوء وتعیین ذلک بما دارت علیه الإبهام والوسطى، وکذا الذراع فی کثیر من المقاییس الشرعیة. کلّ ذلک محمول على الغالب; للانصراف، وفی مقابل ذلک یقال بإلغاء الخصوصیة العرفیة عند العلم بعدم دخلها.

 

ومن هنا یعلم حال غیر واحدة من المسائل المستحدثة:

 

ومنها ـ ما مرّ فی حکم الغنائم المأخوذة من العدو فی عصرنا من الطیارات والدبابات والمدافع وأمثال ذلک; فإنّ قوله تعالى (وَ اعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِن شَیْء فَإِنَّ للهِ خُمُسَهُ)(11) ـ الدالّ على تملّک المقاتلین لأربعة أخماس الغنیمة ـ منصرف عن أمثالها من جهتین:

 

أول: إنّ الجیوش فی عصرنا تکون جمیع مصارفها على الحکومة; من وسائل النقل والسلاح والتغذیة والأدویة ومصارف الجرحى والمعلولین بل وعوائل القتلى وغیر ذلک، بینما کانت جمیعها على آحاد المقاتلین فی أزمنة نزول الآیة وما یقاربها; ولذا کان للفارس سهمان وللراجل سهم واحد من الغنائم باعتبار مصارف المرکب. نعم، ربّما کان هناک مساعدات لبعض الأفراد سیّما الذین لا یجدون إلاّ جهدهم ولکن لم یکن ذلک شاملاً لحوائجهم کلّها; فلذا یمکن دعوى انصراف الآیة عن مثل زماننا.

 

ثانی: إنّ الأسلحة والمعدّات الحربیة فی عصرنا ممّا تحتاج إلیه الدولة ولا حاجة لغیرها فیها، نعم، یمکن أن یقال ببیعها وصرف ثمنها فیهم، ولکن لا دلیل على ذلک أیضاً. إذن، فدعوى الانصراف عن هذه المصادیق قویة.

 

ومنها ـ ما مرّ فی حکم التشریح والترقیع.

 

إلى غیر ذلک ممّا یمکن دعوى انصراف العمومات عنها.

 

الأمر الخامس: کثیراً ما تندرج المسائل المستحدثة ضمن العناوین الثانویة ; ولذا یجب شرحها وکشف النقاب عنها، فنقول ـ ومنه سبحانه نستمد التوفیق والهدایة : إنّ حل تلک العناوین لا یتنقّح إلاّ بعرض مسائل:

 

1 ـ تعریف العناوین الثانویة.

2 ـ عدد العناوین الثانویة.

 

3 ـ دور العناوین الثانویة فی الفقه الإسلامی.

 

4 ـ نسبة العناوین الثانویة إلى الأدلّة.

 


(1) صحیح مسلم، ج4، ص1874، ومستندات کثیرة اُخرى.
(2) الخلاف: ج 2 ص 394.
(3) الوسائل: ج 27 ص 169 ب 12 من صفات القاضی ح 52.
(4) نوح: 12.
(5) الإسراء: 6.
(6) التوبة: 69.
(7) سب: 35.
(8) شرح نهج البلاغه (ابن أبی الحدید): ج 18 ص 122.
(9) الخلاف: ج 1 ص 318.
(10) المائدة: 1.
(11) الأنفال: 41.

 

3 ـ نماذج من المسائل المستحدثة(1) تعریفها
12
13
14
15
16
17
18
19
20
Lotus
Mitra
Nazanin
Titr
Tahoma