بغض النظر عن کون الخطبة بشأن بیعة الناس للإمام(علیه السلام) أو المسائل المرتبطة بصفین، فانّه استهله(علیه السلام)بعدم انطلاقه نحو الناس بل الناس هم الذین إندفعوا إلىّ: «فتداکو(1) علیّ تداک الابل إلهیم(2) یوم ورده(3) وقد أرسلها راعیها، وخلعت مثانیها»(4).
ثم أضاف(علیه السلام): «حتى ظننت أنهم قاتلیّ أو بعضهم قاتل بعض لدی» تتضمن هذه العبارة عدّة اُمور:
1 ـ کیفیة هجوم الناس علیه من أجل البیعة أو حین الاصرار على شروع موقعة صفین إنّما تفید تغیر الناس آنذاک، وهنا لابدّ من الالتفات إلى أن معنى المفردة تداکوا هو الضرب وقد أشارت فی العبارة إلى شدة عطش الابل التی تضرب بعضها بعضا لتبلغ أسرع من غیرها الماء، والهیم شدة العطش التی تجعل الإنسان أو الحیوان مضطرباً. فلو ترکت هذه الابل العطاش لحالها دون الراعی فما عساها تفعل. أجل هکذا کانت حال الناس فی تلک اللحظات الحساسة حتى کان یخشى علیهم أن یقتل بعضهم بعضاً. نعم هذا هو حال الناس حین یعشقون شیئاً ویعبرون عنه بعواطقهم، إلاّ أنّه من المؤسف أنّ هؤلاء الناس سرعان ما یتخلون عن موقفهم إذا واجهتهم بعض المصاعب.
2 ـ یمکن أن تکون حالة إندفاعهم نابعة من عدم عمق مشاعرهم وقلّة علمهم ومعرفتهم.
3 ـ تشتمل هذه العبارات على بعض الکنایات التی تفید صعوبة السیطرة علیهم حین تأخذهم الحرارة والحماس، کما یصعب إثارتهم حین تلفهم البرودة والانتکاس.
ثم قال(علیه السلام): «وقد قلبت هذا الأمر بطنه وظهره حتى منعنی النوم فما وجدتنی یسعنی إلاّ قتالهم أو الجحود بما جاء به محمّد(صلى الله علیه وآله) فکانت معالجة القتال أهون علی من معالجة العقاب وموتات الدنیا أهون علی من موتات الآخرة».
فتفید هذه العبارات:
أولاً: أنّ الإمام(علیه السلام) لا یرضخ لضغوط الناس، فلا یتحذ القرار حتى یدرس جمیع جوانب الموضوع، وهذا ما ینبغی أن تکون علیه سیاسة الزعماء الربانیین بعیدة عن العواطف والأحاسیس مستندة إلى مصالح لاُمّة الواقعیة.
ثانیاً: عادة ما یصل الإنسان فی حیاته الفردیة أو القادة فی حیاتهم الاجتماعیة إلى مفترق طرق، فلابدّ هنا من الشجاعة والاقدام على إنتخاب الاصلح، فان کان القتال هو الأصلح لا ینبغی للدعة والراحة أن تحول دون خوضه بحجة حفظ دماء المسلمین دون الإکتراث إلى المصالح العلیا.
ثالثاً: المهم بالنسبة للإمام(علیه السلام) رضى اللّه وإداء التکلیف ومن هنا آثر رضى اللّه سواءاً تضمن رضى الناس أم لا.
رابعاً: واضح أنّ قتال الإمام(علیه السلام) کان قتال الإیمان للکفر والإسلام للجاهلیة. بناءاً على ما تقدم فقد کان(علیه السلام)یرى رضى اللّه قبل الاستجابة لرغبات الناس، وبالطبع قد یمکن الجمع بین الاثنین إذا کانت رغبات الاُمّة وتطلعاتها مشروعة تهدف نشر القیم والمبادئ السماویة.