ذکرنا سابقاً أنّ الخطبة اُلقیت فی ظروف عصیبة جدّاً، حیث شنت الغارات تلو الغارات على أهل العراق، جعلت الإمام (علیه السلام) یسعى جاهداً لا عداد الناس، إلاّ أنّ الضعف والوهن کان قد بلغ مبلغه منهم بحیث لم تعد لهم من قوة تذکر، فلم یکن أمام الإمام (علیه السلام)من سبیل سوى اللجوء إلى آخر حربة من أجل تعبئتهم واستنفار طاقاتهم وهى توبیخهم وذمهم علهم یلتفتون إلى أنفسهم ویبصروا الأخطار التی کانت تتربص بهم.
فقد استهل الإمام (علیه السلام) خطبته بالتعرض إلى العامل الرئیسی الذی یقف وراء ذلک الضعف والذلة والهوان والذی یعزى إلى عدم الانسجام بین الأقوال والأفعال الذی یستند إلى ضعف الاعتقاد الباطنی بالأهداف المقدسة النبیلة فقال (علیه السلام): «أیّها الناس المجتمعة أبدانهم، المختلفة أهواؤهم»، أمّا کلامهم فقد کان شدید یخترق الصخور، أمّا أعمالهم فقد کانت هزیلة لا تنسجم وذلک الکلام «کلامکم یوهی(1) الصم(2) الصلاب، وفعلکم یطمع فیکم الأعداء». أجل إنّ ذلکم وهوانکم إنّما أفرزه شقاقکم وفرقتکم. إنّکم متحدون ظاهراً، مختلفون باطناً، وهذا ما أدى بکم إلى الاکتفاء بالأقوال الطنانة الرنانة بدلاً من الأفعال والأعمال ; الأمر الذی یؤدی إلى تآکل المجتمعات وانهیارها إذا ما عاشت هذه الحالة «تقولون فی المجالس: کیت وکیت(3)، فاذا جاء القتال قلتم: حیدی حیاد(4)».
فالواقع هذه بعض الصفات البارزة للمنافقین والأفراد الضعاف النفس المسلوبی الإرادة الذین یکثرون الحدیث فی المجالس الخاصة والعامة ویستعرضون معانی الشجاعة والبسالة والعزم والإرادة الراسخة، وکأن قدرة هؤلاء لا تتجاوز هذه الأحادیث، فاذا وردوا میدان القتال استحوذ علیهم الخوف والهلع وکأنّهم یصرخون، إلیک عنّا أیّها القتال فارقنا وابتعد، بل هم مرعبون من میدان الحرب والقتال ویختلقون مختلف الأعذار للفرار من المیدان. والعبارة «حیدی حیاد» من مادة حید بمعنى المیل والانحراف عن الشیء وتقابلها العبارة «فیحی فیاح» بمعنى الرغبة فی الشیء. ولعل المخاطب بالعبارة «حیدی حیاد» الجنود والمقاتلون الذین تدعوهم عناصر النفاق والانهزام إلى اعتزال المیدان، وعلى العکس من ذلک دعوة عناصر القوة والاقتدار إلى القتال بقولها «فیحی فیاح». کما یحتمل أن یکون المراد قولهم للمعرکة ابتعدی عنا ; الأمر الذی یکشف عمق خوفهم من قتال العدو، کما یمکن أن یکون المراد أنّهم کانوا یخاطبون أنفسهم بهذه العبارة بغیة الاسراع فی الابتعاد والاعتزال. وما أشبه هذه الطائفة المنافقة بمنافقی عصر الرسالة الذین صورتهم سورة الأحزاب: (قَدْ یَعْلَمُ اللّهُ المُعَـوِّقِـینَ مِنْکُمْ وَالقائِلِـینَ لاِِخْوانِـهِمْ هَلُمَّ إِلَیْنا وَلا یَأْتُونَ البَأْسَ إِلاّ قَلِـیلاً * أَشِحَّةً عَلَیْکُمْ فَإِذا جاءَ الخَوْفُ رَأَیْتَهُمْ یَنْظُرُونَ إِلَیْکَ تَدُورُ أَعْیُنُهُمْ کَالَّذِی یُغْشى عَلَیْهِ مِنَ المَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الخَوْفُ سَلَقُوکُمْ بِأَلْسِنَة حِداد أَشِحَّةً عَلى الخَیْرِ أُولـئِکَ لَمْ یُـؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللّهُ أَعْمالَهُمْ وَکانَ ذ لِکَ عَلى اللّهِ یَسِـیر)(5). لقد کانت هناک عدّة معدودة على هذه الشاکلة على عهد النبی (صلى الله علیه وآله)، غیر أنّه من المؤسف أنّ الأکثریة الساحقة لأهل الکوفة ـ التی کانت تمثل جیش الإمام (علیه السلام) ـ کانت کذلک. ثم قال (علیه السلام): «ما عزت دعوة من دعاکم، ولا استراح قلب من قاساکم» یبدون أنّ هذه العبارة تشکل رداً على أولئک الذین یشکلون على مثل هذه الخطب فی أنّ الإمام (علیه السلام)لم یکتف بالموعظة ولا یمارس الضغوط من أجل حشدهم للجهاد ; الأمر المتعارف لدى الحکام فی کافة أرجاء المعمورة؟ فالإمام (علیه السلام) یقول: لو ترکتکم وحالکم أحراراً ودعوتکم للجهاد لم تلبوا دعوتی، ولو شددت علیکم فی هذه الدعوة فأنتم کذلک، وما ذلک منکم بعجیب فأنتم أفراد ضعاف النفس والإرادة ولستم إلاّ إلباً لأعدائکم على أولیائکم. وقد أثبت التأریخ أن هؤلاء الأفراد أصبحوا جنوداً مجندة لبنی أمیة ومن کان على شاکلة ابن زیاد والحجاج إثر خشیتهم من التهدیدات التی تطیل أموالهم وأعراضهم، ولکن لیس لحکام العدل ولا سیما علی (علیه السلام) من اتباع هذا الاسلوب فی تعبئة الأفراد. ثم قال (علیه السلام)«أعالیل بأضالیل(6)» کل ذلک قعوداً عن الجهاد ودفعاً بی إلى تأخیره، کالمدین الذی یناشد الدائن تمدید الأجل «وسألتمونی التطویل دفاع ذی الدین المطول» نعم هذا هو حال الأفراد الضعاف من أهل المزاعم والإدعاءات دون الأفعال، لیس لهم من هم سوى خلق الأعذار والتشبث بالذرائع من أجل التهرب من المسؤولیة، القرآن من جانبه صور حالة المنافقین على عهد النبی (صلى الله علیه وآله)الذین کانوا یحاولون بشتى الطرق التملص من خوض القتال فعزى ذلک إلى حبهم للدنیا وإیثارها على الآخرة (یا أَ یُّها الَّذِینَ آمَنُوا ما لَکُمْ إِذا قِـیلَ لَکُمُ انْفِرُوا فِی سَبِـیلِ اللّهِ اثّـاقَلْتُمْ إِلى الأَرضِ أَرَضِـیتُمْ بِالحَیاةِ الدُّنْیا مِنَ الآخِرَةِ فَما مَتاعُ الحَیاةِ الدُّنْیا فِی الآخِرَةِ إِلاّ قَلِـیلٌ).(7)