ما أن فرغ الإمام(علیه السلام) من تصویر حقیقة الدنیا وسرعة زوالها حتى تطرق إلى الثواب والعقاب فی الآخرة ومصیر الإنسان هناک على أنّها تمثل الهدف لهذه الدنیا. وبعبارة اُخرى کان القسم الأول من کلامه مقدمة لهذا القسم الذی یشیر فیه إلى الهدف الغائی وهو القرب من اللّه ونیل ثوابه واجتناب عقابه فقال(علیه السلام): «فو اللّه لو حننتم(1) حنین الوله(2) العجال(3) ودعوتم بهدیل(4) الحمام وجأرتم جؤار(5) متبتلی(6) الرهبان(7) وخرجتم إلى اللّه من الأموال والاولاد إلتماس القربة إلیه فی إرتفاع درجة عنده أو غفران سیئة أحصتها کتبه وحفظتها رسله لکان قلیلا فیما أرجو لکم من ثوابه وأخاف علیکم من عقابه» فقد إستعار الإمام(علیه السلام) ثلاثة تشبیهات للتضرع إلى اللّه واستفراغ الجهد فی الانقطاع إلیه، التشبیه الأول: الصوت الذی تخرجه النوق الوالهة الفاقدة لأولادها، وهو الصوت الحزین الذی یرق له القلب حین سماعه، التشبیه الثانی: هدیل الحمام حین إجتماعها، والهدیل یطلق على فرخ الحمام کما یطلق على صوتها، وتعتقد العرب أنّ الهدیل حمامة على عهد نوح(علیه السلام) بقیت وحدها وماتت عطشاً، ومنذ ذلک الیوم والحمام ینوح علیها، التشبیه الثالث: بکاء الرهبان المنقطعین عن الدینا القابعین فی صومعاتهم، والذین ینوحون عند الطقوس الدینیة وقد إشتد نیاحهم بفعل إنقطاعهم عن الدنیا. ولم یکتف الإمام(علیه السلام) بهذا التضرع والنوح والبکاء فقال: «وخرجتم إلى اللّه من الأموال والاولاد» أی ولو ترکتم أموالکم وأولادکم من أجل القرب إلى اللّه کان قلیلاً. والدلیل واضح على ذلک فالدنیا وما فیها لاتعدل جناح بعوضة من الآخرة، وهى لیست سوى قطرة إلى بحر، ومن الطبیعی أنّ الإنسان لایخرج من ماله وولده ما لم یقف على هذا المعنى. وقد وردت هذه المقارنة بین الدنیا والآخرة فی خطبة المتقین بقوله(علیه السلام):«صبروا أیاما قصیرة أعقبتهم راحة طویلة»(8).