بعد أن فرغ الإمام (علیه السلام) من تلک المقدمة المقتضبة، تطرق إلى نموذج بارز من الافرازات المشؤومة لترک الجهاد فقال (علیه السلام): «ألا وإنی قد دعوتکم إلى قتال هؤلاء القوم لیلاً ونهاراً، وسراً وإعلاناً وقلت لکم: اغزوهم قبل أن یغزوکم» یذکر الإمام (علیه السلام)بأنّه أشار إلى طبیعة هؤلاء الظلمة المردة الذین ینطوون على الروح العدائیة التی تبرز على السطح إذا ما سنحت الفرصة فلا یتورعون عن قتل الأبریاء وسبی النساء ونهب الأموال والثروات، وعلیه فان العقل والشرع یجیز الوقوف بوجه هؤلاء الطغاة وقبر مؤامراتهم فی مهدها وکسر شوکتهم وإخماد فتنهم قبل أن یتأهبوا للقتال والعدوان.
ثم یعرض (علیه السلام) الدلیل على ما أورده فقال: «فوالله ما غزی قوم فی عقر(1) دارهم إلا ذلولاً». ومن الواضح أن من یتعرض للهجوم فی عقر داره إنّما یفقد معنویاته ویشعر بالهزیمة والفشل فی نهایة الأمر من جانب آخر فانّ المهاجم الذی یتعرض إلى قوم فی عقر دارهم لا یفکر أبداً فی حفظ حرمة الدار، بل یدمر کل شیء فیها، أضف إلى ذلک فان مثل هذه الدار تصبح مسرحاً للقتال ; الأمر الذی یؤدی إلى سفک دماء من فیها بما فیهم الصبیة والنساء، وعلیه فان مثل هذه الاُمور تشکل بمجموعها العناصر التی تؤدی إلى هزیمة القوم الذین یتعرضون للهجوم فی عقر دارهم. ومن هنا ورد التأکید على المقاتلین فی کافة الغزوات الإسلامیة (باستثناء بعض الغزوات والمعارک التی اکتنفتها بعض الظروف والملابسات کمعرکة الأحزاب) بترک المدن والتصدی للأعداء خارجها. ثم یخلص الإمام (علیه السلام)إلى هذه النتیجة «فتواکلتم(2) وتخاذلتم حتى شنت(3) علیکم الغارات وملکت علیکم الأوطان». التواکل یعنی إیکال کل فرد عمله إلى آخر، بعبارة اُخرى هو تخلی الفرد عن مسؤولیته والقائها على عاتق الآخرین بحیث تخلو الساحة. والتخاذل یعنی عدم مد ید العون إلى الآخرین، بما یؤدی فی خاتمة المطاف إلى تصدع عرى الاتحاد، بحیث لا یشعر العدو بأی رادع أو مانع یحول دون شنه لهجماته، وهذه أحد أبشع الصفات التی تسود المجتمعات البشریة بحیث یتقاعس کل فرد عن مسؤولیته ویقلدها ربقة الآخرین وینهمک کل فی شؤونه الشخصیة دون أن یوفر الدعم والإسناد لأخیه إذا ما تعرض لحملات الأعداء المسعورة، فلا یؤدی ذلک سوى إلى تلک النتیجة التی خلص إلیها الإمام (علیه السلام)فی أنّ العدو سیرى المیدان مفتوحاً أمامه فیشن حملاته ـ لتسقط المدینة تلو الأخرى دون أن یجابه بأدنى مقاومة. ثم یستشهد الإمام (علیه السلام) بمثال حی متطرقاً إلى واقعة الغامدی فیقول: «وهذا أخو غامد وقد وردت خیله الأنبار وقد قتل حسان بن حسان البکری وأزال خیلکم عن مسالحها». ویبدو أنّ الأنبار کانت منطقة حدودیة عراقیة متاخمة للشام، لأنّ مسالح جمع مسلحة تعنی الحدود والثغور ـ وذلک لأنّ الأسلحة تجمع هناک لتستخدم فی الدفاع عن الحدود ـ وقوله (علیه السلام): «أزال خیلکم عن مسالحها» تفید اجتیاز العدود لهذه الحدود دون مقاومة وقد مرّ علینا شرح ذلک. ثم أشار الإمام (علیه السلام) إلى الجنایات التی ارتکبها الغامدی بحق أهل الأنبار من المسلمین والمجاهدین من أهل الکتاب الذین ینبغی الدفاع عنهم من قبل الدولة الإسلامیة، فقال (علیه السلام): «ولقد بلغنی أنّ الرجل منهم کان یدخل على المرأة المسلمة، والأخرى المعاهدة فینتزع حجله(4) وقلبه(5) وقلائده(6) ورعثه(7) ما تمتنع منه إلاّ بالاسترجاع والاسترحام»، فالإمام (علیه السلام) أشار بوضوح إلى أنّ أحداً من المسلمین لم یهب للدفاع عن هذه النسوة المسلمات أو تلک المعاهدات. أمّا الاسترجاع فقد فسرّه بعض شرّاح نهج البلاغة بالبکاء المصحوب بالعویل فی حین فسره البعض الآخر بکلمة «إنا لله وإنا إلیه راجعون» التی تقال عادة عند النوائب والشدائد التی یتعرض لها الإنسان. ثم قال (علیه السلام) «ثم انصرفوا وافرین مانال رجلاً منهم کلم ولا أریق لهم دم» آنذاک یخلص (علیه السلام)إلى هذه النتیجة «فلو أن أمراً مسلماً مات من بعد هذا أسفاً ما کان به ملوماً، بل کان به عندی جدیراً» فقد کشف الإمام (علیه السلام) عن عمق اللوعة التی کانت تعتلج فی صدره مستغرباً ما حدث، کیف یضعف المسلمون إلى هذه الدرجة ولا تهتز لهم قصبة تجاه هذه الحملات المروعة التی أهلکت الحرث والنسل وقد طالت الأموال والأنفس والأعراض، وقد رجع المهاجمون غانمین سالمین دون أن یتکبدوا أیة خسارة! أجل لا یسع المسلم الغیور تحمل مثل هذه الحادثة المأساویة قط، بل لو مات کمداً من جرائها لما کانت علیه من لائمة. والجدیر بالذکر أنّ الإمام (علیه السلام) لم یفرق بین المرأة المسلمة والمعاهدة لما تعرضت له من انتهاک الحرمة والتطاول على حلیها ووسائلها، کما یکشف عن مدى ضرورة التزام الدولة الإسلامیة بالدفاع عن حقوق الأقلیات الدینیة التی تعیش ضمن المجتمع الإسلامی، مع ذلک فان غرض الإمام (علیه السلام) کان یکمن فی تصویر عمق الفاجعة المأساویة. وبالطبع فان هذا الکلام لا یختص بزمان دون آخر، کما لا یقتصر على هجوم جیش معاویة على الأنبار، بل یتضمن قاعدة کلیة یجب أن تسود الحیاة الإسلامیة على الدوام. وکأنّی بالإمام (علیه السلام) قد خاطب بهذه العبارات کافة المسلمین الذین یتعرضون الیوم لأبشع هجمات الشرق والغرب التی تنوی السیطرة على أموالهم وثرواتهم ومسخ قیمهم وضرورة التصدی لهم والدفاع عن حیاض بلدانهم، بحیث لو مات أحدهم غصة وکمداً لما یرتکبه العدو الطامع من جرائم وجنایات لما کان ملوماً بل کان جدیراً.