یواصل الإمام (علیه السلام) عتابه وذمه لعسکر الکوفة «ما أنتم إلاّ کابل ضل رعاتها فکلما جمعت من جانب إنتشرت من آخر» فالمراد أنّ إرادتکم ضعیفة وأفکارکم مشتتة ولا تمیزون مصالحکم، فقد شبههم (علیه السلام) بالابل لضیق أفقهم وضحالة أفکارهم، وقوله «ضل رعاتها» اشارة إلى عدم طاعتهم لائمتهم وأولیائهم.
ومن البدیهی أن هؤلاء الأفراد لایسعهم أن یکونوا قوة أمام العدو ولذلک قال(علیه السلام):«لبئس لعمر(1) الله سعر(2) نار الحرب أنتم».
فالحرب ظاهرة ممجوجة غیر محببة وآثارها خراب البلدان وقتل الإنسان والفقر والجهل والبؤس والشقاء والتخلف، إلاّ أنّ نفس ظاهرة اللوم هذه قد تکون دواءاً حیویاً للمجتمع وذلک حین ینهض العدو لیهضم حقوق الاُمّة وینشر فی ربوعها الذعر والفساد والانحراف.
فلا یمکن إعادة الأمن والسلام والعدل إلى المجتمع إلاّ من خلال الحرب. ومن هنا صرح القرآن الکریم قائلا:(اُذن للذین یقاتلون بانهم ظلموا وان الله على نصرهم لقدیر)(3) وقال فی موضع آخر (وَقاتِلُوا فِی سَبِیلِ اللّهِ الَّذِینَ یُقاتِلُونَکُمْ وَلاتَعْتَدُوا إِنَّ اللّهَ لایُحِبُّ المُعْتَدِینَ)(4).
وعلیه فانّ الإمام (علیه السلام) إذا أشار إلى الحرب، فانّما ذلک لتکرر إعتداءات وحملات أهل الشام وسفکهم للدماء ونهبهم للأموال بل هبوا فی الواقع لمحاربة وصی رسول الله (صلى الله علیه وآله)من بایعته الأمّة برمتها.
ومن هنا خاطبهم «تکادون ولاتکیدون، وتنتقض أطرافکم فلا تمتعضون،(5) لا ینام عنکم وأنتم فی غفلة ساهون».
ومن الواضح أنّ من لایستعد لمواجهة العدو ویتأهب لخططه التدمیریة فانّ قراه ومدنه الحدودیة إنّما تکون على الدوام مسرحاً لعملیات العدو لیمارس بحق أهلها القتل والدمار ونهب خیراتهم وثرواتهم، ولیس هنالک من مصیر بافضل من هذا المصیر ینتظر اُولئک الذین یعیشون الغفلة عن عدوهم.
وما أعظم قساوة إصدار الأحکام بشأن الإمام على(علیه السلام) واتهامه بالضعف وقلّة التدبیر فی الحروب إذا لم یحط بحقیقة أهل الکوفة والضعف والوهن الذی کان سائدا لدیهم إلى جانب عدم الطاعة والتمرد الذی طبعت علیه سجیتهم.
بعد ذلک یخلص الإمام (علیه السلام) إلى نتیجة أعمالهم فیقول «غلب والله المتخاذلون»نعم فالفشل والهزیمة لا تقتصر على هولاء الذین تصدعت وحدتهم وتخلوا عن مجابهة العدو، بل الهزیمة من القوانین الثابتة التی یمنى بها کل من یعیش هذه المفردات من قبیل الفرقة والنفاق والضعف والوهن وعدم الطاعة.
ثم قال (علیه السلام):«وآیم الله(6) انی لاظن بکم أن لو حمس(7) الوغى(8) واستحر(9) الموت، قد انفرجتم عن إبن أبی طالب إتفراج الرأس».
فقد أشار الإمام (علیه السلام) إلى عدّة اُمور بهذا التشبیه: الأول إنّ مکانته وإن کانت بمثابة الرأس من الجسد، ولکن هل للرأس ـ الذی یعتبر مرکز الفکر ویضم العین والاذن واللسان ـ أن یفعل شیئا دون سائر الاعضاء؟ والثانى: هل من حیاة ووجود لهذا الجسد إن فصل عنه الرأس، وإن کان فیه فهل له فعل شئ دون معونة العقل والفکر والسمع والبصر.
وأخیرا یتعذر التئام الرأس بالجسد إذا ما فصل عنه، بینما لیست هنالک مثل هذه الصعوبة فی إلتئام سائر أعضاء البدن.
وعلیه فان مراد الإمام (علیه السلام) هو أنکم تنفرجون عنی ولیس لکم العودة إلی اذا حمی الوطیس وأخذکم الخوف فهربتم منی کما احتمل بعض الشرّاح أنّ المراد بقوله:«أنفراج الرأس» هو فلق الرأس بضربة السیف التی تأبى الالتئام.(10)