تبدو عبارات الإمام(علیه السلام) واضحة بالالتفات إلى سبب ورود الخطبة والأجواء التی کانت حاکمة آنذاک، فقد أشار الإمام(علیه السلام) إلى أنّه لم تبق لدیه سوى الکوفة بعد ذلک التمرّد والعصیان «ما هى(1) إلاّ الکوفة، أقبضها وأبسطها». والسؤال المطروح هنا: ماهى العلل والعوامل التی جعلت جیش الإمام(علیه السلام) یعیش هذه الحالة الخطیرة فی العراق وسائر المناطق الإسلامیة؟ نترک الإجابة على هذا السؤال إلى البحث الذی سنخوض فیه فی موضوع تأملات.
أمّا المسألة المهمّة فهى أنّ رجلا ربانیاً مثلَ علی(علیه السلام) وبتلک الشجاعة والبطولة والحنکة فی التدبیر إنّما عاش تلک الحالة تجاه أعداء الإسلام أثر عدم وجود القُوى المخلصة والشجاعة الموالیة للحق والمواکبة لحرکة الإمام(علیه السلام). فقد أشار الإمام(علیه السلام) بقوله «أقبضها وأبسطها» بشأن الکوفة إلى خروج سائر المناطق عن حکومته وإن کانت خاضعة لها ظاهریاً. ثم قال(علیه السلام): «ان لم تکونی إلاّ أنت تهبّ أعاصیرک(2) فقبحک الله» فی إشارة إلى أنّ الکوفة وإن کانت مرکز حکومة الإمام(علیه السلام) إلاّ أنّها لم تکن خالیة من التمرد والنفاق، بحیث لم یکن الإمام(علیه السلام)یحسب لأهلها ذلک الحساب. وما أعظم معاناته(علیه السلام) وهو بذلک العلم والحلم والحکمة والشجاعة إلاّ أنّه یفتقر إلى المخلصین من الأتباع.
ثم تمثل(علیه السلام) بقول الشاعر:
لعمر أبیک الخیر یا عمرو إننی *** على وضر من ذا الإناء قلیل
«وضر» سواء کان بمعنى بقیة الدسم فی الإناء، أو بقیة قطرات الماء فی الإناء، أو الرائحة الباقیة فی إناء الطعام، فهى إشارة إلى أنّ الکوفة لم تکن سوى ذرة زهیدة آنذاک بالنسبة للعالم الإسلامی الواسع، ولا یسع أىّ زعیم بالاعتماد على أهل هذه المنطقة مهما کان من حفظ بیضة الإسلام والدفاع عن البلاد الإسلامیة والوقوف بوجه هذه الذئاب الکاسرة المتعطشة للدماء.
1. الضمیر «هی» یعود إلى الحکومة أو البلاد فمفهوم العبارة «ما الحکومة والمملکة التی تحت سیطرتی إلاّ الکوفة».
2. «أعاصیر» جمع «إعصار» وهى ریح تهب وتمتد من الأرض نحو السماء کالعمود کما تطلق کنایة على الاُمور الاجتماعیة وهى تعنی الفوضى التی کانت سائدة فی الکوفة طول التأریخ.
