یستهل الإمام(علیه السلام) خطبته بامطار أهل الکوفه بوابل عتابه ولومه وذمه لتجاهلهم المخاطر التی کانت تهدد البلد الإسلامی وعدم إکتراثهم لها، لعل قصبتهم تهتز فیحولوا دون تفاقم تلک المخاطر. فقد کان أهل الشام یشنون الغارة تلو الغارة على مختلف المناطق الإسلامیة ویسفکون دماء المسلمین وینهبون أموالهم وثرواتهم. فقد قال الإمام (علیه السلام) «أف لکم(1) لقد سئمت(2) عتابکم» ودلیل ذلک واضح، فالعتاب ولاسیما من شخص کعلی (علیه السلام) لابدّ أن یکون له تأثیراً واضحاً فی نفس المعاتبین ودفعهم لاعادة النظر فی أعمالهم الطالحة، إمّا إذا لم یحصل هذا التأثیر بسبب غفلة المقابل فان تکراره لا ینطوی سوى على الملل والتعب. ثم قال(علیه السلام): «أرضیتم بالحیاة الدنیا من الآخرة عوضا؟ وبالذل من العز خلفا؟» إنّ هذا سکوتکم الممیت وفرارکم من الجهاد یدل على أنکم أوبقتم آخر تکم واستبدلتموها ببضعة أیام من الدنیا من جانب، ومن جانب آخر فقد أفریتم دنیاکم، وذلک لانکم استبدلتم العزة والرفعة بالذلة والضعة؟ والحال إن موتاً بعزة أشرف بکثیرمن حیاة بذلة; الرسالة التی لقنها أولیاء الله والزعماء الربانیین أتباعهم على مدى العصور والدهور. فقد قال علی (علیه السلام) فی نهج البلاغة «فالموت فی حیاتکم مقهورین والحیاة فی موتکم قاهرین»(3) وقال سید الشهداء «ألا وإنّ الدعی بن الدعی قد رکزنی بین إثنتین بین السلة والذلة وهیهات منا الذلة» ثم خاطب جیش الکوفة «إن لم یکن لکم دین وکنتم لا تخشون المعاد فکونوا أحراراً فی دنیاکم» فالواقع أنّ عبارات الإمام(علیه السلام)کانت تمثل دلیل سئمه عتابهم وکأنّهم عقدوا العزم على إیثار الذلة والحقارة وغضب الله على العزة والشرف ورضى الله، ومن هنا لم یعد للعتاب من أثر علیهم، حتى سئم الإمام(علیه السلام)عتابهم. أمّا فی العبارة اللاحقة فیشیر الإمام(علیه السلام) إلى ضعفهم لیلتفتوا إلى أنفسهم فیزیلوا ذلک الضعف فقال (علیه السلام): «إذا دعوتکم إلى جهاد عدوکم دارت أعینکم، فأنّکم من الموت فی غمرة(4) ومن الذهول فی سکرة. یرتج علیکم حواری(5) فتعمهون(6)». قوله(علیه السلام)«یرتج علیکم حواری» ـ بالنظر إلى الحوار الذی یعنی الکلام المکرر ویرتج من مادة (رت ج) بمعنى یغلق ـ له معنیان: الأول ما ذکر سابقاً، أی أنّ کلامی المکرر لا یؤثر فیکم فأنکم لا تدرکوه، لأنّ باب الفهم أغلق بوجوهکم. والثانی أنّ لسانکم عقد عن جوابی، وذلک لأنّکم لا تمتلکون الرد المنطقی على کلامی ـ على کل حال فانّ نتیجة المعنیین واحدة تضمنتها العبارة اللاحقة وهى حیرتهم وضلالهم «وکأن قلوبکم مألوسة(7) فانتم لا تعقلون».
ثم یخلص الإمام (علیه السلام) إلى هذه النتیجة «ما أنتم لی بثقة سجیس(8) اللیالی». وبالنظر إلى أن سجیس اللیالی»
تعنی ظلمة اللیل فانّ معنى العبارة مادامت اللیالی بظلامها فلیس لی من ثقة بکم، وهى کنایة عن الأبدیة والخلود، لأن الظلمة لا تفارق اللیل أبداً. أما اختیار ظلمة اللیل فینطوی على منتهى البلاغة إستنادا إلى أفکار أهل الکوفة وأعمالهم السوداء المظلمة. ثم أکد ذلک بقوله «وما أنتم برکن یمال بکم ولا زوافر(9) عز یفتقر إلیکم» وهکذا أعلن الإمام(علیه السلام)بهذه العبارات عدم ثقته واعتماده على هذه العناصر الضعیفة بعد أن تطرق لنقاط ضعفهم، أملا فی إثارتهم وتعبئتهم لتوحید الصف ومجابهة العدو. ودخولهم المیدان بکل قوة وشجاعة.