یشیر الإمام(علیه السلام) هنا إلى طبیعة علاقته فی السابق والحاضر بقریش، لأنّه أورد هذه الخطبة على هامش موقعة الجمل: حیث نعلم بأنّ مؤججی نار الجمل هم طلحة والزبیر وسائر الأفراد من قریش الذین خططوا لهذه المعرکة بدافع من أحقادهم تجاه الإمام(علیه السلام). فقد کانوا یدیرون هذه المعرکة علانیة أو خفیة ومن هنا فانّ کلمات الإمام(علیه السلام) تضمنت تحذیر الاُمّة من عدم الوقوع فی شباکهم إلى جانب تنبیهها إلى الدوافع الأصلیة لهذه المعرکة، فاستهل(علیه السلام)کلامه قائل: «مالی ولقریش؟ والله لقد قاتلتهم کافرین ولا قاتلتنهم مفتونین(1)» نعم فهؤلاء کانوا على الشرک، وقد التحقوا بالمسلمین بسیف علی (علیه السلام)ودعوة النبی (صلى الله علیه وآله)، إلاّ أنّهم وبعد وفاة
النبی(صلى الله علیه وآله) وبدافع من حب الجاه قد إبتعدوا عن الحق حتى هبوا لقتال وصی رسول الله(صلى الله علیه وآله) بعد أن بایعوه طواعیة.
مفتون من مادة فتن بمعنى الانحراف کما تأتی بمعنى الشرک والکفر، ولعلها تشیر فی العبارة إلى انحرافهم عن الإسلام نحو الکفر وقد ورد فی الروایة عن رسول الله(صلى الله علیه وآله) أنّه قال لعلی(علیه السلام): «یا علی حربک حربی وسلمک سلمی»(2). وعلى ضوء هذا الحدیث فقد خرج من ربقة الإسلام من قاتل علیاً (علیه السلام) فی الجمل وصفین ونهروان; لأن ممّا لاشک فیه هو کفر من قاتل النبی(صلى الله علیه وآله). وهنا یمکن أن یطرح هذا السؤال: لو کان الأمر کذلک لوجب على جیش علی (علیه السلام) فی الجمل أن یأسر من هب لقتاله ویستولی على أموالهم کغنائم، بینما لم یعاملهم الإمام(علیه السلام)کذلک؟ قیل فی الجواب لقد کان للامام(علیه السلام) الحق فی أن یفعل هکذا، إلاّ أنّ بعض الاُمور من قبیل شرائط الزمان والمکان جعلته ینصرف عن هذا الأمر. أضف إلى ذلک فانّه لیس هنالک من ضرورة فی تکافى أحکام جمیع الکفار، فممکن أن یستثنى من حکم الأسر ومصادرة الأموال کغنائم حربیة هذه الطائفة من المسلمیین التی خرجت على إمام زمانها ودخلت الکفر. فقد جاء فی بعض الروایات أن مروان بن الحکم.
قال: إنّ علی(علیه السلام) أعاد الأموال إلى أهلها لما غلبنا فی البصرة، فکان یعید أموال کل من أقام البینة أو یأتی بالشهود، ویحلف من لیس له بینة. ولما سئل عن توزیع الغنائم سکت ثم قال: أیّکم یأخذ أُمّه فی سهمه(3).
وتفید بعض الروایات أنّه عفى عن أهل البصرة کما فعل رسول الله (صلى الله علیه وآله) حین فتح مکة. کما یستفاد أنّه لم یرد أن تکون هذه المسئلة سنة، لأنه کان یعلم بان شیعته ستخضع لضغوط الظلمة ولعلها تعاملهم بهذه المعاملة(4).
على کل حال فان مراد الإمام (علیه السلام) من هذه العبارة أنّه لا یکن أی بغض أوعداء لقریش، أما بذور حسدهم للإمام (علیه السلام) فسببها وقوف الإمام(علیه السلام) بوجههم فی میادین صراع الحق ضد الباطل إبان إنبثاق الدعوة الإسلامیة، ولم یکن ذلک سوى إمتثالا لأوامر الله. ثم قال(علیه السلام):
«وإنی لصاحبهم بالأمس کما أنا صاحبهم الیوم» فما زال السیف الذی جندلت به الابطال فی بدر وأحد والاحزاب بیدی، فالوا قع هذا تهدید صریح لمؤججی نار الجمل. وتساءل البعض أن مثل هذا الکلام یصدق على معاویة و عمرو بن العاص ومروان وأمثالهم الذین هبوا لقتال رسول الله (صلى الله علیه وآله)، إلاّ أنّه لا یصدق على طلحة والزبیر، فقد وقفا إلى جانب رسول الله (صلى الله علیه وآله) فی معارکه. وقد أجییب على هذا السؤال بأن الإمام(علیه السلام) لم یرد شخصاً معیناً، إلاّ أنّ الهدف بیان حقیقة أنّه کان یقاتل فی سبیل الحق ضد الباطل على عهد رسول الله (صلى الله علیه وآله)ومازال بعد النبی (صلى الله علیه وآله)یقاتل فی هذا السبیل (ونعلم أن قریشاً کانت تقاتل آنذاک ضد المسلمین). أضف إلى ذلک صحیح أنّ طلحة والزبیر کانا مع رسول الله (صلى الله علیه وآله)، إلاّ أنّ أغلب أصحابه الجمل ومنهم مروان کانوا من قریش. ثم أشار (علیه السلام) إلى أحد دوافع أصحاب الجمل فقال «والله ما تنقم منا قریش إلاّ أنّ الله إختارنا علیهم، فأدخلناهم فی حیزنا» ثم وصفهم بأنّهم أصبحوا کما قال الشاعر(5).
أدمت لعمری شربک المحض(6) صَابحا *** وأکلک بالزبد(7) المقشرة(8) البجر(9)
ونحن وهبناک العلاء ولم تکن *** علیا وحطنا حولک الجرد(10) والسمر(11)
نعم فهؤلاء یحسدوننا ویبغون علینا، إلاّ أنّ إرادة الله هى التی إختارتنا للنبوة والإمامة، مع ذلک لم نعاملهم بالمثل فقد عفونا عن أخطائهم وحفظنا هم من الاعداء، إلاّ أنّهم لم یتنکروا لهذه النعمة فحسب، بل شهروا سیوفهم علینا وهبوا لقتالنا، فقد قطعوا الرحم وقابلوا الاحسان بالجحود وأشعلوا نار حرب الجمل فسفکوا الدماء وزرعوا الفرقة فی صفوف المسلمین.
فقریش تشبه بعملها هذا ذلک الحسود الذی یعترض على حکمة الله، فقد قال سبحانه (اللّهُ أَعْلَمُ حَیْثُ یَجْعَلُ رِسالَتَهُ)(12).
وقال (أَمْ یَحْسُدُونَ النّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَیْنا آلَ إِبْراهِـیمَ الکِتابَ وَالحِکْمَةَ وَآتَیْناهُمْ مُلْکاً عَظِـیم)(13).
وقال (قُلِ اللّهُمَّ مالِکَ المُلْکِ تُـؤْتِی المُلْکَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ المُلْکَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِـیَدِکَ الخَیْرُ إِنَّکَ عَلى کُلِّ شَیء قَدِیرٌ)(14).
ومن الطبیعی أنّ الإنسان المؤمن بالمفاهیم القرآنیة والاصول الإسلامیة لا یشعر بالحسد تجاه من یشمله الله على ضوء حکمته بالنبوة والإمامة، فلا یرى نفسه سوى مسلهم لهذه الحکمة.