لا نرانا نبالغ إذا شبهنا الناس بالمسافرین الذین یغادرون منطقة صغیرة ملوثة نحو عالم کبیر مفعم بالطهر والخیر والعطاء، بل هذا هو السفر الواقعی والحقیقی الذی ینقل الإنسان من هذا العالم السفلی والمتهافت للدنیا إلى عالم الآخرة العلوی والسامی الخالد، کما أنّ لوازم السفر التی یهیئها المسافر، هى الأخرى لابدّ أن توفر فی هذا السفر الشاق من قبیل الزاد والمتاع والمرکب ومعرفة نقطة الانطلاق والغایة ومطبات الطریق والمخاطر التی تعترض السبیل والتی ینبغی دراسة کل واحة منها بصورة مستقلة ـ فقد صرح القرآن الکریم بأنّ زاد هذا السفر إنّما یکمن فی الورع والتقوى فی اجتناب المعاصی وطاعة أوامر الله والإتیان بالأعمال الصالحة. وهو المعنى الذی أکده أمیر المؤمنین علی (علیه السلام) کراراً فی نهج البلاغة، ومن ذلک ماورد فی الخطبة 183 حیث قال (علیه السلام) : «وأنتم بنو سبیل على سفر من دار لیست بدارکم وقد أُوذنتم منها بالارتحال واُمرتم فیها بالزاد» وهن یبرز هذا السؤال: إنّما یستفاد من الزاد والمتاع طیلة السفر لا فی المقصد والغایة، والحال إنّ الورع والتقوى تستفاد فی الآخرة وتشکل مفتاح أبواب الجنان، فکیف اعتبرت التقوى هى الزاد والمتاع ؟ وللإجابة على هذا السؤال لابدّ من القول بأنّ مبدأ هذا السفر طویل یبتدأ من لحظة الموت وسکراته ویستمر حتى عالم البرزخ وما یتخلله من مواقف القیامة ومنازل السؤال والحساب والصراط ـ والتی تتسم بتعددها وهول مطلعها ـ حتى تنتهی بالجنان. وممّا لاشک فیه أنّ التقوى هى زاد فی عالم البرزخ کما أنّها الزاد والمتاع فی مواقف القیامة ومنازلها قبل الدخول إلى الجنّة ـ نعم فانّ زاد التقوى هو الذی یجعل الإنسان یجتاز هذه المنازل الخطیرة بسلام ویقوده إلى منزله الأخیر المتمثل بالجنة.
جدیر بالذکر أنّ الآیة الشریفة (إِنَّ أَکْرَمَکُمْ عِنْدَ اللّهِ أَتْقاکُمْ)جعلت التقوى هى المعیار الرئیسی لکرامة الإنسان وقیمته ; الأمر الذی یؤکد المعنى المذکور فی أنّ السبیل الوحید للنجاة غداً إنّما یکمن فی التقوى والتی عبّر عنه أحیاناً بالزاد وأحیاناً اُخرى بصفتها تمثل ملاک الکرامة الإنسانیة. وهذا ما وضحته بعض العبارات الواردة فی الخطبة 204 من نهج البلاغة «وانقلبوا بصالح ما بحضرتکم من الزاد فانّ أمامکم عقبة کؤودا ومنازل مخوفة مهولة لابدّ من الورود علیها والوقوف عندها». نسأل الله سبحانه أن یوفقنا لتوفیر هذا الزاد القیم قبل فوات الأوان، فلا نرد ذلک السفر بأیدی خالیة، والحق أنّها خالیة مقارنة بما علیه تلک الدار.