لمّا فرغ الإمام(علیه السلام) من وصایاه للفقراء والمعدمین بطاعة الله وخشیته وإلاّ یصدهم عن ذلک الانحراف الأخلاقی بسبب سوء الأوضاع وصعوبة العیش التی یعانون منها، وأصل خطبته لیخاطب هنا الأغنیاء والمرفهی بما یحفظ التوازن فی المجتمع. فقد حثم بادئ ذی بدء إلى مدّ ید العون والمساعدة إلى بطانتهم وأقربائهم وعشیرتهم، ویلفت نظرهم إلى غض الطرف عن الأموال والثروة التی لیس من شأنها أن تجعل الإنسان غنیاً عن قرابته «أیها الناس إنه لا یستغنی الرجل ـ وإن کان ذا مال ـ عن عترته(1)، ودفاعهم عنه بأیدیهم وألسنتهم». فالواقع أنّهم أعظم سند یوفر له الحمایة والدعم ویزیل عنه المشاکل والمخاطر، وإذا ما تعرض لبعض الظروف الصعبة والحوادث الخطیرة، کانت عترته أشفق من الآخرین به وأحرصهم علیه «وهم أعظم الناس حیطة(2) من ورائه وألمّهم(3) لشعثه(4) وأعطفهم علیه عند نازلة إذا نزلت به». نعم فالحیاة ملیئة بالمخاطر والمطبات والعواصف الهوجاء والأحداث المریرة التی لا یسع الإنسان التغلب علیها بمفرده، ومن هنا فإنّ العقل والحکمة تتطلب من الإنسان التفکیر فی مثل هذه الأحداث. وما أروع أن تکون لهذا الإنسان قرابة تهب لدعمه وحمایته فی مثل هذه الظروف. ولکن، هل یمکن الحصول على دعم القرابة ومساندتها دون الإحسان إلیها وتفقد أمورها وإحاطتها بالحب والرعایة وإغاثتها مالیاً ومعنویاً؟ قطعاً، لا. فما أحرى کل إنسان أن یوطد أواصر مودّته لقرابته من خلال بعض البذل المادی حتّى لا یبقى وحده حین تعصف به الأحداث والمصائب. طبعاً الإحسان إلى الآخرین ممّا ورد الندب إلیه ولا تخفى آثاره «الإنسان عبید الإحسان» إلاّ أنّ الأولویة فی هذا الأمر للقرابة «الأقربون أولى بالمعروف» حیث تمهد الأجواء أمام تعمیق أواصر الاخاء والمحبّة. وبغضّ النظر عما سبق فإنّ هذا الأمر لو طبق فی المجتمع کما ینبغی فقد لا تبقی هنالک من آثار للفقر والحرمان فی المجتمع، کیف لا وفی کلّ قبیلة عدد من الأفراد المتمکنین الذین لو مدّوا ید العون إلى سائر أفراد قبیلتهم لما ظل هنالک من یعانی من الحرمان. وقد أوصى الإمام(علیه السلام) ولده الإمام الحسن(علیه السلام)بهذا الأمر مبیّناً فوائد إکرام العشیرة ومعالجة مشاکلهم إذ قال(علیه السلام): «وأکرم عشیرتک! فإنّهم جناحک الذی به تطیر وأصلک الذی إلیه تصیر ویدک التی بها تصول»(5). ثم یتطرق الإمام(علیه السلام) إلى دلیل الآخر فی إطار حثه الأفراد المتمکنین على مساعدة قرابتهم فیقول: «ولسان الصدق یجعله الله للمرء فی الناس خیر له من المال یرثه غیره».. وقد ورد فی هذا المعنى من النثر والنظم الکثیر الواسع، فمن ذلک قول عمر لابنة هرم: ما الذی أعطى أبوک زهیراً؟ قالت: أعطاه مالاً یفنى، وثیاباً تبلى. قال: لکن ما أعطاکم زهیر لا یبلیه الدهر، ولا یفنیه الزمان.

إذا أتت اُعطیت الغنى ثم لم تجد *** بفضل الغنى ألفیت مالک حامد

وقل غناء عنک مال جمعته *** إذا کان میراثاً وواراک لاحد

نعم لایحمل الإنسان شیئاً من الأموال معه فی قبره، إلاّ أنّه یحمل العمل الصالح والذکر الحسن لدى الناس، فلا یکد یذکر إسمه حتّى یترحم علیه الناس ویسألون الله له المغفرة والعفو والرحمة.

هذا هو رأس المال المعنوی والمادی الخالد الذی یمکن نیله من خلال الإنفاق فی سبیل الله وبذل الإحسان إلى عباد الرحمن. وزبدة الکلام فانّ الأغنیاء قد دعوا إلى مدّ ید العون إلى فقراء المجتمع ومساعدتهم من خلال دافعین; الأول بغیة الحصول على الأعوان والأنصار وتوظیفهم لصالحهم حین بروز النوائب والشدائد التی تواجههم فی حیاتهم، والثانی بهدف الحصول على السمعة الحسنة والذکر الطیب بعد الموت بما یجعل الآخرین یترحّمون علیهم ویسألون الله لهم العفو والمغفرة. وما أعظم هذه التجارة بهذا المتاع الدنیوی الزائل من أجل الحصول على السندین المذکورین.

1. «عترة» قال أرباب اللغة تعنی أصل الشیء وأساسه، کما قیل أنّ هذه المفردة أقتبست من عِتر (على وزن فِطر) نبات معطر کثیر الغصون والأوراق وتشیر إلى فروع القرابة. وقیل تطلق العترة على الأولاد فقط. وعلیه فعترة النبی(صلى الله علیه وآله) هم ولد فاطمة(علیها السلام) وإلى ذلک أشار الحدیث المعروف «إنی تارک فیکم الثقلین کتاب الله وعترتی أهل بیتی (لسان العرب، الصحاح، مقاییس اللغة).
2. «حیطة» اسم مصدر من مادة «حوط» بمعنى الاحاطة، وهى هنا بمعنى الرعایة والکلاءة. وقال البعض الحیطة بفتح الحاء بمعنى المراقبة وبکسرها بمعنى الحفظ.
3. «الم» من مادة «لمم» بمعنى الجمع والاصلاح.
4. شعث بالتحریک بمعنى التفرق والانتشار.
5. نهج البلاغة، آخر الرسالة رقم 3.