ذکرنا أنّ الإمام(علیه السلام) خاطب بهذا الکلام الکوفة (وقیل البصرة والکوفة» فقال «کأنی بک یا کوفة تمدین مد الأدیم(1) العکاظی» «عکاظ»(2) اسم سوق قرب مکة (وقال البعض بین مکة والطائف) تجتمع فیه العرب کل عام من مختلف المناطق لمدّة عشرین یوماً کما صرح بذلک البعض، فکانوا یعرضون متاعهم، کما کانوا ینشدون الشعر وتتفاخر کل قبیلة على الاُخرى، وبالطبع کان هناک کثیراً من المفاسد; الأمر الذی جعل الإسلام یردم ذلک السوق.
أما هل المراد بهذه العبارة الحوادث الألیمة التی ستقع فی الکوفة، أم کبر الکوفة وإتساعها. فقد صرح أغلب شرّاح نهج البلاغة بالتفسیر الأول، بینما قال القلیل منهم بالتفسیر الثانی، ویبدو أنّ التفسیر الثانی هو الأنسب، لأنّ دبغ الجلد العکاظی لا یبدو منسجماً وکون العبارة کنایة عن الحوادث الألیمة والمأساویة، بینما یمکنه أن یکون کنایة عن إزدیاد رقعة الکوفة وإتساع مساحتها. جدیر بالذکر أنّ الجلد العکاظی واسع وجمیل ومن أرغب الجلود لدى العرب، ولعل فی هذا إشارة إلى جمال الکوفة وعمرانها فی الأزمنة القادمة مقارنة بما علیها فی
زمان الإمام(علیه السلام). وذکر البعض أنّ العبارة إشارة إلى مستقبل الکوفة وتقسیمها إلى أجزاء متعددة، على غرار تقسیم الجلد العکاظی ودبغه وتوسیعه. ثم قال(علیه السلام) «تعرکین(3) بالنوازل(4)وترکبین بالزلازل» وقد ورد مثل هذا المعنى فی الخطبة 108 بقوله: «تعرککم عرک الأدیم» أی یسلط علیکم بنی أمیة فیسومونکم سوء العذاب. ونبوءته الثانیة التی تمثلت بقوله(علیه السلام): « إنّی لأعلم أنّه ما أراد بک جبار سوءاً إلاّ إبتلاه اللّه بشاغل ورماه بقاتل». ویمکن أن تکون العبارة «ابتلاه اللّه بشاغل» إشارة إلى الأمراض العضال والالام التی تشغل الظلمة وتصرفهم عن الناس، کما أنّ «ورماه بقاتل» الحوادث التى تهجم على الإنسان من الخارج فتقتله وتقضی علیه.
والحق أنّ ما تکهن به الإمام(علیه السلام) بشأن الکوفة قد حدث، حیث إتسعت إتساعاً کبیراً بعد الإمام(علیه السلام) وکانت على الدوام مرکزا للفتن والحوادث المریرة، وقد هب أغلب الجبابرة للسیطرة علیها، إلاّ أنّ اللّه کان یبتلیهم بأنواع البلاء ویدفع شرهم عنها، ولعل ذلک یعزى لکون الکوفة تشکل مرکز استقطاب خلص المؤمنین من الشیعة الأوفیاء لعلی بن أبی طالب(علیه السلام) وإن کان بینهم بعض المنافقین. ومن هنا صرحت بعض الروایات بفضل الکوفة. أمّا من بین الأفراد الذین هموا بالکوفة بعد أمیرَالمؤمنین(علیه السلام) زیاد بن أبیه. فقد ورد فی بعض الروایات أنّ زیادا لما حصبه أهل الکوفة، وهو یخطب على المنبر، فقطع أیدی ثمانین منهم، وهم أن یخرب دورهم، ویجمر نخلهم، فجمعهم حتى ملأ بهم المسجد والرحبة، یعرضهم على البراءة من علی(علیه السلام); وعلم أنّهم سیمتنعون فیحتج بذلک على استئصالهم وإخراب بلدهم. فخرج خارج من القصر فقال: إنصرفوا، فانّ الأمیر یقول لکم: إنّی عنکم الیوم مشغول; وإذا بالطاعون قد ضربه، فکان یقول: إنّی لأجد فی النصف من جسدی حر النار حتى مات.(5)
1. «أدیم» بمعنى ظاهر الشیئ وغالباً ما یطلق على الجلد، کما یسمى وجه الأرض بـ (أدمة الأرض)، وقیل هذا هو السبب فی تسمیة آدم لأنه خلق من أدیم الأرض.
2. «عکاظ» کما ذکرنا سابقا سوق کانت تقیمها العرب فی العصر الجاهلی قرب مکة فی صحراء بیت نخلة والطائف یجتمعون إلیه لیتعاکظوا; أی یتفاخروا، وکان تفاخرهم قبلی عادة ما یقود إلى الحروب الدامیة.
3. «تعرکین» من مادة «عرک» على وزن درک ، من عرکت القوم الحرب إذا مارستهم حتى أتعبتهم.
4. «نوازل» جمع نازلة بمعنى الحوادث الشدیدة.
5. شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید 3 / 198.
