لقد تواترت خطبه(علیه السلام) فی نهج البلاغة التی توصی بالزهد فی الدنیا وعدم الاغترار بها والتزود منها إلى الدار الآخرة، إلى جانب التحذیر من مخاطرها وأنّها متقلبة سریعة الزوال،
رغم أن الإنسان یطمح بالحیاة مادامه فی الدنیا ولابد أن یعیش بعزة ورفعة ویصرّف شؤون حیاته المادیة دون التبعیة للآخرین وأنّ الإنسان لابدّ أن یتأهب فیها إلى السفر الشاق الذی ینتظره، ومن هنا ورد التأکید فی هذا الخطبة على الزهد فی عشر عبارات رائعة فی الدقة والمعنى، فقال فی العبارة الاولى: «ألا وإن الدنیا قد تصرمت،(1) وآذنت(2) بانقضاء» فالعبارة قد تکون إشارة إلى عمر الدنیا الایل للانقطاع والانتهاء، ومن هنا یسمى زماننا آخرالزمان، أو إشارة إلى الحیاة الدنیا لکل فرد من الأفراد فی کل عصر وزمان فی أنّه قصیر سریع الزوال، والمعنى الاخیر أنسب. فمفهوم العبارة هو أنّ عمر الإنسان من القصر فی هذه الحیاة الدنیا وکأنّه یخاطب بالاستعداد للرحیل منذ ولادته. فقوله(علیه السلام):«ألا وإن الدنیا قد تصرمت» یتناول باطن الدنیا، بینما تناول قوله(علیه السلام): «وآذنت بانقضاء» ظاهرها، وبعبارة أخرى فانّ الدنیا فانیة ذاتا،
کما أنّ مختلف ملامحها فی الحیاة الإنسانیة هى الاُخرى قد أخبرت عن هذا الفناء، وبالتالی فلا ینبغی للإنسان أن یغتر بها ویعیش الخسران.
وهى کما صورها الشاعر:
هى الدنیا تقول بمل فیها *** حذار حذار من بطشی وفتکی
فلا یغرنکم حسن إبتسامی *** فقولی مضحک والفعل مبک
ثم قال(علیه السلام): «وتنکر معروفها وأدبرت حذاء»(3) کیف لا وغضاضة الشباب وطراوة الفتوة ونظارة الوجه آیلة إلى الکهولة والعجز والشحوب، ثم وصف الدنی(علیه السلام) بقوله: «فهى تحفز(4)بالفناء سکانها وتحدوا بالموت جیرانها» فالعبارة تفید حرکة الإنسان نحو أجله ومصیره المحتوم شاء ذلک أم أبی. والحدی الصوت الذی یردد لتعجیل حرکة الناقة، فما أروع هذا التعبیر الذی یفید توفر جمیع العوامل التی تدعو الإنسان لحث الخطى والسرعة فی الحرکة إلى الزوال والفناء. أمّا التعبیر بالجیران بعد السکان فکأنّه یفید أنّ محل سکن الإنسان لیس فی هذا العالم، فهو جاره ولیس بصاحبه، أی أنّه مفارقه لامحالة! ثم قال(علیه السلام): «وقد أمر(5) منها ما کان حلوا وکدر منها ما کان صفوا». فما أسرع نهایة مرحلة الطفولة والشباب الحلوة العذبة لتستبدل بمرارة الشیخوخة والکهولة فیعد الاستقرار إضطراباً والحصة سقماً والراحة تعباً، وقیل فی تفسیر هذه العبارة إنّها إشارة إلى اختلاف ظاهر الدنیا وباطنها، فظاهرها حلو وباطنها مرّ، ظاهرها عذب وباطنها علقم، غیر أن التمعن فی العبارات السابقة یفید أنّ التفسیر الأول أنسب. ثم یختتم(علیه السلام)حدیثه عن الدنیا بالقول «فلم یبق منها الاسملة کسملة(6) الاداوة(7)أو جرعة کجرعة المقلة لو تمززه(8) الصدیان لم ینقع» فالعبارة إشارة إلى حیاة کل فرد من الأفراد وانها تقترب بمرور الزمان من نهایتها، وقد کان تعبیره بمنتهى الروعة لتصویر قصر عمر الدنیا وسرعة زوالها، فالسملة تعنى الشی الزهید الذی لاقیمة له، وتطلق على ما یتبقى من الماء فی الاناء، و«جرعة المقلة» تطلق على المسافر الذی یشکو من قلّة الماء فیسعى للحصول على الماء لادخاره، أجل فعمر الدنیا قصیر إلى درجة أنّه لا یروی ظمأ من تعلق به، فما أحرى العاقل أن یفیق إلى نفسه وینأى بها بعیداً عن الاغترار به، فینهمک بالآخرة ویسرع فی السیر إلیها. ثم یخلص الإمام(علیه السلام) إلى النتیجة الواضحة «فازمعو(9) عباداللّه الرحیل عن هذه لدار المقدور على أهلها الزوال ولا یغلبنکم فیها الأمل ولا یطولن علیکم فیها الأمد»(10). إنّ الإنسان راحل عن هذه الدنیا شاء أم أبی، ومراد الإمام(علیه السلام)إرحلوا بعلم وعبرة واغتنموا الفرصة وسیروا على النهج بالعمل الصالح والخلق الرفیع والمعرفة باللّه لتنالوا سعادة الآخرة والخلود فی نعیمها. فقد نبه(علیه السلام) إلى الخطرین الکامنین فی الطریق فقال: «ولا یغلبنکم فیها الأمل ولا یطولن علیکم فیها الأمد»; الأمر الذی أرشد القرآن الکریم إلیه بقوله: (أَلَمْ یَأْنِ لِلَّذِینَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِکْرِ اللّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الحَقِّ وَلا یَکُونُوا کَالَّذِینَ أُوتُوا الکِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَیْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَکَثِـیرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ)(11)ونؤکد مرة اُخرى أنّ العبارات لاتفید ترک الدنیا والرهبانیة فیها وعدم الإکتراث إلى الحیاة، بل تفید عدم التعلق بزخا رف الدنیا والاغترار بها، وبعبارة اُخرى فالمراد التعامل مع الدنیا کما هى، لا على أساس الوهم والخیال وما تملیه علینا أهوائنا وشهواتنا.