نعود الآن إلى القرآن لنتأمل فی ما یقول فی هذا الخصوص، حتى یتسنى لنا وضع الدلیل العقلی على محک البیان النقلی لنؤیده بواسطته.
ولکون القرآن کتاباً تربویاً عظیماً، ولارتباط موضوع بحثنا بالمسائل التربویة ارتباطاً وثیقاً جدّاً فقد تحدّث القرآن کثیراً حول هذه المسألة وبتعابیر متنوعة ومختلفة من جملتها:
1 ـ (وَمَا أَرسَلنَا فِى قَریَة مِّن نَّبىٍّ إِلاَّ أَخَذنَا أَهلَهَا بِالبَأسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُم یَضَّرَّعُونَ).(1)(2) (الأعراف / 94)
یُستنتَجُ من هذه الآیة بوضوح أنّ الإیقاظ والتنبیه هو أحد أهداف الحوادث المزعجة التی کانت تُصیب الأقوام الغارقة فی بحار الذنوب، وکان سِرّ مقارنة هذه الحوادث مع دعوات الأنبیاء هو تهیأة الأرضیة الخصبة لقبول دعواتهم، وتناغم (التکوین) مع (التشریع) یقّوی تأثیر مواعظهم.
2 ـ (ظَهَرَ الفَسَادُ فِى البَرِّ وَالبَحرِ بِمَا کَسَبَتْ أَیدِى النَّاسِ لِیُذِیقَهُم بَعضَ الَّذِى عَمِلُوا لَعَلَّهُم یَرجِعُون). (الروم/ 41)
یُمکن الإستفادة من هذه الآیة فی بُعدَین مُختلِفین هما:
بُعد البلایا الذاتیة (التی یُسببها الإنسان بنفسه) وبُعد البلایا والمصائب الموقِظة، وتوضِّحُ تناغُمَ هذا القسم من المصائب والحوادث غیر المطلوبة، مع المسائل التربویّة وبرامج التکامل الإلهیّة.
3 ـ (وَلَنُذِیقَنَّهُم مِّنَ العَذَابِ الأَدْنى دُونَ العَذَابِ الأَکبَرِ لَعَلَّهُم یَرجِعُونَ). (السجدة / 21)
إنَّ تعبیر (العذاب الأدنى) ذو مفهوم واسع یشمل أغلب الاحتمالات التی ذکرها المفسّرون، کُلاًّ على حِدة، (المصائب والآلام والمتاعب، الاضرار المالیّة، الجفاف، القحط والجوع، الهزائم فی الحروب، وما شاکل ذلک).
ولکنّ ما ورد فی کلام بعض المفسّرین من احتمال کون المقصود من العذاب الأدنى هو عذاب القبر لا یتناسب مع ظاهر الآیة، لأنّ جملة لعلّهم یرجعون تُحدّد هدف هذا العذاب (العودة والرجوع) ممّا لا یتناسب مع عذاب القبر (تأمل جیداً)(3).