أخبرت الآیة الأولى بحقیقة عدم انفصال إرادة الله تعالى عن وجود الأشیاء ، فبمجرّد قوله سبحانه للشی الذی یریده ، کُنْ ، فإنّه سیتحقق : (اِنَّمـَا قَوْلُنـَا لِشَىء اِذَا اَرَدْنـَاهُ اَنْ نَّقُولَ لَهُ کُنْ فَیَکُونُ) .
وطبعاً إنّ هذا الکلام لایعنی وجود الحوادث والموجودات فی لحظة واحدة ، بل یعنی وجودها وحدوثها وفق الإرادة الإلهیّة والأمر الإلهی بدون تقدیم أو تأخیر حتى ولو لحظة واحدة .
أی إذا أراد الله تعالى أن یبقى جنین فی بطن اُمه تسعة أشهر وتسعة أیام بالضبط ، فإنّه سیولد فی الموعد المحدَّد وبدون لحظة من التقدیم أو التأخیر ، وهکذا إذا أراد سبحانه أن یمکث هذا الجنین أقل أو أکثر من هذه المدّة ، وإذا أراد الله إیجاد منظومة کالمنظومة الشمسیة ، أو عالم عظیم آخر کالعالم الحالی فإنّه سوف یوجد على الفور.
والتعبیر بکلمة (کن) أیضاً إنّما جاء بسبب عجز اللفظ عن بیان المعنى ، أی أنّه تعبیر کنائی وإلاّ فلا توجد فاصلة بین إرادة الله تعالى وتحقق الشیء المراد .
والعجیب هو أن بعض المفسّرین القدماء فسّروا کلمة (کن) کأمر صادر من الله تعالى ، فواجهوا هذا السؤال : مَن هو المخاطب ؟ أیمکن مخاطبة العدم؟
وعلیه اضطروا لتوجیه مخاطبة العدم ، أو القول بوجود المعدومات ، أو الاستدلال بالآیة على کون کلام الله تعالى قدیم .
فی حین أنّ هذا الکلام کلّه خاطی ، وتشیر القرائن إلى کون هذه الجملة کنایة عن عدم وجود فاصلة بین إرادة الله وتحقق الشی المراد .
وبالحقیقة فإنّ الآیة قد تحدثت عن إرادة الله تعالى وإیجاد الأشیاء لا غیر ، وکما سنعلم فإنّ إرادة الله تعالى تکون على معنیین ، فمن جهة تکون عین ذاته ، ومن جهة اُخرى تکون عین فعله أیض ، (فتأمل جیداً).
وقد ورد شیء من هذا القبیل فی الآیات : 117 من سورة البقرة ، 82 من سورة یس ، 59 و 47 من سورة آل عمران ، 35 من سورة مریم ، 68 من سورة غافر .
ویجدر الالتفات إلى أن بعض الآیات المذکورة قد نزلت بخصوص منکری المعاد لتذکیرهم بعدم وجود شیء یصعب على الإرادة الإلهیّة إیجاده . (کالآیة 82 من سورة یس ، والآیة المذکورة فی بحثنا) .
وبعضها نزلت بخصوص خلق آدم (علیه السلام) من التراب (کالآیة 59 من سورة آل عمران) .
أو خلق المسیح من دون أب (کالآیة 47 من سورة آل عمران ، والآیة 35 من سورة مریم) .
أو بخصوص الابداع فی خلق السموات والأرض (کالآیة 117 من سورة البقرة) .