کلمة (قاهر) و(قهّار) من مادّة (قهر)، وهی بالأصل ـ کما جاء فی (مقاییس اللغة) ـ تأتی بمعنى الغلبة والتفوُّق ، لذا یُطلق على الصخور القویّة (قهقر) ، وقال الراغب فی مفرداته : إنّ (القهر) معناه النصر المصحوب بإذلال الطرف المقابل، لذلک تستخدم فی کلا المعنیَیْن ، وقال الخلیل بن أحمد فی کتاب العین : (القهر) معناه الغلبة والتسلُّط على أحد أو شیء معیَّنْ ، وجاء بهذا المعنى فی «لسان العرب» و«تاج العروس» .
وعندما تُستعمل کلمة (قاهر) و(قهّار) بخصوص الله سبحانه وتعالى فإنّها تأتی بمعنى التغلُّب على جمیع الجبابرة ، والتسلُّط على جمیع المخلوقات ، وعجزها جمیعاً إزاء إرادته وأمره عزّ وجلّ ، بحیث لایستطیع أی موجود أن یحول دون مشیئته وإرادته ، ولکن لکون (قهّار) من صیغ المبالغة فإنّها تعطی نفس هذا المفهوم وتبیّنه بتوکید أکثر .
والبلاغ الذی تحمله هاتان الصفتان الإلهیتان فی طیّاتهما للمؤمنین ، هو أنّهما تحذّران المؤمنین من غرور النفس والظلم والشعور بالتسلُّط والغلبة ، لأنّ غرور السلطة کان مصدر الکثیر من التعاسة وحالات الفشل على مدى التاریخ ، بل یجب علیهم أن یعتبروا أنفسهم خاضعین لإرادة الله ، ویعتقدوا بأنّ لیس لقدرتهم أدنى تأثیر على الإرادة الإلهیّة ، ولا ریب من أنّ الإنتباه إلى قاهریة وقهّاریة الله یمکنها أن تصدّ الإنسان عن التهوّر عند الغلبة .
أمّا کلمة (غالب) فهی من مادّة (غلبة) وتأتی بنفس معنى القهر ، وتدل على القوة والشدّة والغلبة ، لهذا یُطلق على الأفراد المتمرّدین (أغلب) ، و(مغلّب) وتعنی المنتصر على عدوّه (1) .
ولکون مفهوم (غالب) یشبه مفهوم (قاهر) ، فإنّ هذه الصفة الإلهیّة تعطی نفس البلاغ السابق أیضاً للعباد وأهل المعرفة والسلوک .
والظریف بالأمر هو أنّ الأدیان المذکورة عندما تتحدث عن قاهریة وغلبة الله على جمیع الأشیاء تختم بالعبارة التالیة : (وَلَکِنَّ أَکْثَرَ النَّاسِ لاَیَعلَمُونَ) .
أجل لأنهم لایعلمون بأنّ زمام عالم الوجود بید الله تعالى !!
أجلْ إنَّ أمر الله تعالى نافذ ، فالماء والهواء والتراب کلّها مُسلمة لأوامره تعالى، ولأنّهم لا یلتفتون إلى هذه الحقیقة یتیهون فی عالم الأسباب فیفرحون إذا ما کانت الأسباب مساعدة ویقنطون بخلافها ، فی حین لو کان لهم إیمان بغلبة الباری وقاهریته لما دبَّ الیأس فی قلوبهم أبداً ، ولما غرّتهم الإنتصارات أیضاً .
وبالمناسبة ، إنّ الآیة المذکورة تحدّثت عن یوسف (علیه السلام) الذی أراد إخوته أن یقتلوه ولکنهم ألقوه فی غیابة الجبّ ، آملین أنْ یخلُوَ لهم وجه أبیهم (أی حبّه) ، لکن الله جعل کیدهم سبباً فی وصوله إلى السلطة !
أجل ، إنّ من إحدى أشکال قاهریة الله ، هی أن یجعل وسائل غلبة ونجاة الإنسان على ید عدوّه فی أکثر الأحیان ، وهذه هی الحقیقة التی یجهلها أغلب الناس ولا یعلمونها .