تحدثت الآیة السادسة فی البدایة عن شهادة الله على أعمال وأقوال وحالات الإنسان ، ثم عن سعة علمه واحاطته بکل شیء فی الوجود ، وفی الحقیقة فإنّ لهاتین المسألتین ارتباطاً لطیفاً مع بعضهم ، قال سبحانه : (وَمَا تَکُونُ فی شَأن وَمَا تَتلُوامِنهُ مِنْ قُرآن وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَل إِلاَّ کُنَّا عَلَیکُمْ شُهُوداً إِذ تُفیضُونَ فِیهِ)(1) .
والجدیر بالذکر هو أنّ المخاطب فی الجملتین الأولیتین هو الرسول(صلى الله علیه وآله)، حیث أشارت إلى الشأن ، (أی الحالات والأعمال المهمّة) ، وتلاوة القرآن الکریم ، أمّا المخاطب فی الجملة الثالثة التی تحدثت عن مطلق الأعمال ، فهم الناس بأجمعهم .
وعلى أیّة حال ، بما أنّ المخاطب فی بدایة الآیة هو الرسول (صلى الله علیه وآله)وفی الذیل هم جمیع الناس ، فانّها تدل على العموم والشمول .
وعلاوة على ذلک فهی تشمل حالات الإنسان وأقواله وأعماله (الاستناد إلى تعابیر الشأن والتلاوة والعمل) .
و«الشهود»: جمع «شاهد» ، وهو بمعنى الحاضر والناظر والمراقب (واستعمال صیغة الجمع بخصوص الباری ـ کما وضّحنا هذه المسألة کراراً ـ إنّما هو کنایة عن عظمته وعلو مقامه سبحانه وتعالى) ، ولهذا التعبیر مفهوم أوسع من مفهوم العلم ، وهو فی الواقع یشیر إلى حقیقة کون علم الله علماً حضوری ، وسنشرح ذلک فی قسم التوضیحات .
«تفیضون»: من «الافاضة» وهی فی الأصل بمعنى امتلاء الإناء بالماء بحیث ینساب من حافته ، وهذه الکلمة تستعمل بمعنى الشروع بالأعمال باقتدار أو بصورة جماعة ، وقد وردت فی هذه الآیة بهذا المعنى أیض .
ثم أضاف سبحانه قائل : (وَمَا یَعزُبُ عَنْ رَّبِّکَ مِنْ مِّثقَالِ ذَرَّة فِى الأَرضِ وَلاَ فِى السَّمَاءِ وَلاَ أَصْغَرَ مِنْ ذَلِکَ وَلاَ أکْبَرَ إِلاَّ فِى کِتَاب مُّبِین) .
«یعزب»: من « العزوب » ـ على وزن «غروب» ـ وهو بمعنى البعد والانزواء والغیبة ، وقال بعض اللغویین والمفسّرین : بأنّه بمعنى الابتعاد عن العائلة وفراق الأهل لتحصیل مرتع للمواشی ، ویُطلق «عزبْ» و«عازب» على کل من یبقى بعیداً عن أهله ، أو کل من لم یتزوج أیض ، وکذلک یُطلق على أی لون من الفراق والغیبة (2) .
ویعد هذا التعبیر فی هذه الآیة إشارة لطیفة إلى حضور جمیع الأشیاء بین یدی الله ، فحقیقة علم الله هو هذا «العلم الحضوری ، کما سنذکره فیما بعد .
وکما قلنا سابقاً فإنّ المقصود من «الکتاب المبین» هو علم الله الذی یعبَّر عنه بـ«اللوح المحفوظ» أیض ، والمثقال معناه ، «الوزن» و«الذرة» فسرت بعدة وجوه منه : الدیدان الصغار والغبار الذی یلتصق بالید ، وذرّات الغبار العالقة فی الفضاء والتی تُرى عندما تدخل أشعة الشمس فی الغرفة المظلمة ، وأیا کان من هذه التعابیر فإنّه کنایة عن منتهى الصغر والدقة فی الحجم وتلویح بسعة علم الله سبحانه وتعالى .