للفلاسفة بحوث عدیدة حول حقیقة ( المکان ) و( الزمان ) ، وبالرغم من أنّ هذا الموضوع من المواضیع التی تلازمنا دائماً إلاّ أنّ معرفة حقیقتهما لا تزال من المشکلات حتى بالنسبة للفلاسفة! وهذه من العجائب .
فقد اعتقد جماعة بأنّ المکان ـ والذی یعطی معنى الفضاء ، أو هو بُعد خاص تسبح فیه الأجسام ، ـ موجود مخلوق قبل الجسم ، وکُلّ جسم بحاجة إلیه .
وقال آخرون: إنّ الفضاء الخالی من کُلّ شیء لیس إلاّ وهمٌ وخیالٌ ، وبالأساس ، فإنّ عدم وجود الجسم یعنی عدم وجود المکان ، وبتعبیر آخر : المکان یوجد بعد الجسم لا قبله ، ویُنتزَع من مقایسة جسمَین مع بعضهم ، وکیفیة استقرارهم ، ولیس من المناسب هنا انتقاد هاتین النظریتین الفلسفیتین وتحلیلهم ، بل یجب القول : إنّ المکان بأی واحد من هَذین المفهومین ، محال بالنسبة إلى الله عزّ وجلّ .
لأنّه لایمکن أن یکون هناک موجود قبل الله ، وفق التفسیر الأول ، القائل : إنّ ( المکان موجود یسبق وجود الجسم )، وإذا قطعنا بأنّ الاجسام تحتاج إلى مکان ، فهل یُمکن أن یحتاج واجب الوجود الغنی عن الوجود إلى شیء آخر؟
وعلیه یتضح استحالة تحقق مفهوم المکان طبق التفسیر الأول بخصوص الباری الغنی عن کلّ شیء والمنشىء لجمیع الوجودات ، وأمّا وفق التفسیر الثانی فهو یستلزم وجود النظیر الکفؤ لله تعالى لیُقاس به ، ویُنتزع المکان من قیاس هذین الإثنین مع بعضهم ، فی حین أننا عرفنا فی مباحث التوحید أنّه تعالى لیس له کفؤ ابد .
ومن جهة اُخرى ، لا یمکن تصور المکان بدون محدودیّة ، لأنّه ینبغی تصور جسمین بصورة منفصلة عن بعضهما لیتّضح مفهوم المکان من مقایسَتهما مع بعضهم ، لذا یقول هؤلاء الفلاسفة: إنّ کُلّ العالم لیس له مکان لأنّه لا یوجد شیء خارج عنه لیُقاس به ، أمّا المکان فلأجزاء العالم فقط .
ومن جهة ثالثة إذا کان لله مکان لاستلزم أن یکون له أعضاء وأجزاء ، لأنّ ذرات الجسم ـ بالقیاس مع بعضها ـ تمتلک أمکنة مختلفة ، کأن تکون إحداها فی الأعلى والاُخرى فی الأسفل ، إحداها فی جهة الیمین والاُخرى فی جهة الیسار ، وإذا اعتقدنا بترکیب الله تعالى فستبرز مسألة حاجته إلى هذه الأجزاء والتی لاتتناسب مع وجوب وجوده .
ونفس هذا البحث یرد فی مفهوم الزمان ، فالذین یعتقدون بأنّ الزمان ظرف مخلوق قبل الأشیاء ، والأشیاء المادیّة تدخله بعد الخلق والتکوُّن وتحتاج إلیه ، وبتعبیر آخر : الزمان حقیقة مستقلّة سیّالة مخلوقة قبل جمیع الأشیاء المادیّة ، ویُمکن أن یکون موجوداً حتّى بعد فنائه ، فی هذه الحالة یتّضح عدم إحاطة الزمان بالله تعالى ، لأنّه یستلزم الحاجة إلى شیء وهو الغنی عن کُلّ شیء .
وإن اعتقدن ، ـ طبقاً لنظریة الفلاسفة المتأخرین ، ـ بأنّه ولید حرکة أشیاء العالَم أو الحرکة الجوهریّة للأشیاء ، فإنّه محال بشأن الباری ، لأنّه وجود کامل وغیر محدود من کل ناحیة ، ووجود کهذا لا یمکن تصور الحرکة بشأنه ( أی لا مفهوم له ) ، إذن لا یسعه الزمان .