حاول الیهود بعد مسألة تغییر القبلة ( من بیت المقدس نحو الکعبة ) إلى إیجاد شُبهة فی إذهان المسلمین من خلال هذه المسألة ، واعتبار تغییر القبلة دلیلا على عدم ثبات الرسول محمد(صلى الله علیه وآله) على رسالته ، فنزلت الآیة الأولى من بحثنا وبیّنت: (وَللهِِ الْمَشرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَیْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللهَ وَاسِعٌ عَلِیمٌ) .
فهو حاضر فی کُلّ مکان وبکل شیء علیم ، لذا فأینما تولّوا فثمّ وجهه ، وإمّا الغرض من التوجه نحو القبلة فهو لتمرکز توجُّه المؤمنین إلى أنّ الله عزّ وجلّ له محل خاص او جهة معینّة وهی القبلة ، فوجوده واسع إلى درجة کونه حاضراً ورقیباً فی کل مکان ، وفی نفس الوقت لیس له محل أو مکان خاص!
وطبعاً لیس المقصود من کلمتی المشرق والمغرب فی الآیة المذکورة الجهتَین الجُغرافیّتَین ، بل هو تعبیر کنائی عن جمیع العالم ، کما أننا عندما نرید أن نقول : إنّ أعداء علی (علیه السلام)حاولوا إخفاء فضائله ، وشیعته أخفوها أیضاً خوفاً من أعدائه ، ومع ذلک فإنّ فضائله ملأت العالم ، نقول: ( إنّ فضائله ملأت الشرق والغرب !).
وعلى أیّة حال فإنّ تَعبیر(فَأَیْنَما تَوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) هو تعبیر حیّ وواضح على عدم إحاطة المکان بالله تعالى .
لأنّ التواجد فی کل مکان إمّا یعنی امتلاک الموجود أبعاداً واسعةً وأجزاءً کثیرة تملأ المکان ، وکل جُزء منه موجود فی جهة معینة ، ونحن نعلم باستحالة هذا المعنى بالنسبة إلى الله تعالى ، لأنّه سبحانه لیس له أجزاء ، وقول القرآن : ( هو معکم ) لایعنی أنّ جزءاً من وجود الله تعالى هناک ( فتأمل جید ) .
أو یعنی عدم إحاطة المکان به ، أی هو فوق الزمان المکان ، وطبعاً مثل هذا الوجود تتساوى فیه جمیع الأمکنة والأزمنة ولا معنى للبعد والقرب عنده .
والملاحظة المهمّة هنا هی أنّ التعبیر بعبارة ( وجه الله ) تعنی فی القرآن الذات الإلهیّة المقدّسة .
ولکون ( الوجه ) أشرف أعضاء الإنسان ویحتوی على أهم حواسّه ، فإنّ هذه الکلمة تُستعمل کنایة عن ( الذات ) ، ولکن بعض المفسّرین فسّروها بمعنى الرضا الإلهی ، أو الثواب الإلهی ، أو القبلة ، ولا نعتقد بصحة أیٍّ من هذه المعانی .
قال تعالى فی الآیة الثانیة ـ ضمن ردّه على المشرکین والذین جعلوا له ولد ، وتنزیه ذاته المقدّسة عن هذه الصفات: (وَهُوَ الَّذِى فِى السَّمَاءِ إِلهٌ وَفِى الأَرضِ إِلهٌ وَهُوَ الحَکِیمُ العَلِیمُ) .
إنّ إلوهیّة الله تعالى لا تخص جهة معینة ، أو مکاناً خاص ، ومساحة إلوهیته وسعت کُلّ مکان ، وبسبب وجوده فی کل مکان فهو بکُلّ شیء علیم وخبیر ، وأفعاله حکیمة ، بل إنّ هذا التعبیر یشیر إلى أن ( العلیم ) و( الحکیم ) الوحید فی عالم الوجود هو الله سبحانه ، لأنّ علم وحکمة من سواه قاصرة وناقصة ومشوبة بالجهل .
ولکنّ المشرکین على مدى التاریخ قالو : إنّ لکل واحدة من موجودات العالم إلهاً وربّاً: إله السماء ، إله الأرض ، إله البحر ، إله البر ، إله الحرب وإله السلام ، وما شاکل ذلک ، والآیة أعلاه تنفی جمیع هذه المعتقدات الباطلة ، وتؤکّد على ربوبیّة الله الواحد الأحد على جمیع عالم الوجود .
قال بعض المفسّرین:إنّ هذه الآیة خیر دلیل على هذا الموضوع ، وهو عدم تواجد الله فی السماء ، لأنّه یقول: (فِى السَّمَاءِ إِلهٌ وَفِى الأَرضِ اِلهٌ ) ویعنی أنّ نسبة وجوده فی السماء وفی الأرض متساویة ، وبما أنّ الأرض لا تعتبر مکاناً له ، فکذلک السماء أیض(1) .
وقال البعض الآخر من المفسّرین : إنّ مقصود هذه الآیة هو أنّه معبود فی السماء وفی الأرض ، فالملائکة تعبده فی السماء وفی الأرض تسجد له موجوداته .
وفی حدیث ظریف ورد أنّ أحد زنادقة عصر الإمام الصادق (علیه السلام) وهو «أبو شاکر الدیصانی» قال لهشام بن الحکم : إنّ فی القرآن آیة هی قولن . قلت : وما هی ؟ فقال : ( وَهُوَ الَّذِى فِى السَّمَاءِ اِلهٌ وَفِى الأَرضِ اِلهٌ )، فلم أدر بما أجیبه! فحججت فخبرت أبا عبد الله(علیه السلام)فقال : هذا کلام زندیق خبیث إذا رجعت إلیه فقل : ما إسمک بالکوفة فانّه یقول : فلان ، فقل له : ما اسمک بالبصرة ؟ فانّه یقول : فلان، فقل کذلک الله ربّنا فی السماء إلهٌ ، وفی الأرض إله ، وفی البحار إله وفی القفار إله ، وفی کل مکان إله ، قال : فقدمت فأتیت أبا شاکر فأخبرته فقال : هذه نقلت من الحجاز (2).
إنّ هذا التعبیر یُعَدُّ إشارةً إلى أنّ الله تعالى لا مکان له من جهة ، وحضوره فی کل مکان من جهة اُخرى ، کقولن : ( إثنان زائد اثنین یساوی أربعة ) ، فإنّ هذه المعادلة الریاضیة کما أنّها فی الأرض ، کذلک فانّها فی السماء وفی جمیع المجرّات ، وفی نفس الوقت لیس لهذه المعادلة الریاضیّة محلٌّ معین ، فیمکن أن نقول : بانّها فی کل مکان ولیس لها مکان فی آن واحد .