إنَّ کلمة (محیی) مشتقة من مادّة (حیاة) التی لها معنیان ـ کما ذُکر ذلک فی مقاییس اللغة:
الأوّل : بمعنى الحیاة أی ضد الموت ، والثانی : بمعنى الحیاء أی ضد الوقاحة والتهور.
ولکن بعض المحققین أرجعوا المعنى الثانی إلى المعنى الأوّل وقالو : الحیاء أو الخجل بمعنى انقباض النفس إزاء الرذائل من آثار الکائن الحی ، أو بتعبیر آخر الحیاء هو حفظ النفس من الضعف والنقصان والعیب والسوء .
والجدیر بالذکر هو أنّ (حی) أحد أسماء المطر ، لأنّه مادّة حیاة الأرض ، ویطلق أیضاً على القبیلة اسم (حی) لأنّها تحتوی على حیاة اجتماعیة ، ویُطلق على الأفعى الکبیرة (حیّة) أیضاً لأنّها تتمتع بکامل صور الحیاة ولها قابلیّة کبیرة على الانتقال والتحرّک (1) .
وقد ذکر الراغب فی مفرداته ستّة مصادیق للحیاة هی :
1 ـ الحیاة النباتیة، 2 ـ الحیاة الحیوانیة، 3 ـ الحیاة العقلیة للإنسان، 4 ـ الحیاة العاطفیة (زوال الهم وحصول النشاط واللّذة)، 5 ـ الحیاة الأخرویّة الخالدة، 6 ـ الحیاة التی هی إحدى صفات الله (وتعتبر أکمل وأتم أنواع الحیاة أی کمال العلم والقدرة).
ویمکن تصور أنواع اُخرى من الحیاة ، ومن جملتها الحیاة المعنویة أی الإیمان ، وقد أشار القرآن الکریم إلى هذا المعنى فی آیات عدیدة .
وعلى أیّة حال فقد تجلّت صفة «المحیی» فی الله سبحانه وتعالى من عدّة جهات : فی عالم النبات حیث نلاحظ أنّ الکرة الأرضیة مغطّاة من أقصاها إلى أقصاها بأنواع مختلفة من الأشجار ، الأزهار ، الأعشاب الصغیرة والکبیرة ، المائیة والبرّیة ، فی الغابات وفی الصحراء ، الطبیّة والغذائیة ، بحیث إنّ التدقیق فی تنوّعها وعجائبها یهدی الإنسان إلى ذلک المُبدىء العظیم لعالم الوجود .
وأمّا فی عالم الحیوان فقد خلق سبحانه أنواع وأقسام الأحیاء المائیة والبرّیة ، الطیور ، الحشرات ، الحیوانات الوحشیة والألیفة ، الأحیاء المجهریة والعملاقة ، وبالتالی الإنسان الذی یعدّ النموذج الأتم للحیاة .
ومن البدیهی أنّه کلّما ازدادت الحیاة تعقیداً ازدادت أسرارها وصارت أکثر دهشة ، وهذا فی الحال الذی لا یزال أصل حقیقة الحیاة وکیفیة خروج الحی من المیت مجهولة ، ولم تزل مساعی وجهود آلاف العلماء الفطاحل فاشلة فی طریق حلّ هذا اللغز.
وعندما نجتاز هذه المرحلة ، تبدأ مرحلة الحیاة المعنویة الروحانیة التی وضع الله أُسُسَها عن طریق الوحی وانزال الکتب السماویة وإرسال الأنبیاء والرسُل ، کما قال سبحانه: (أَوَمَنْ کَانَ مَیْتاً فَأَحیَینَاهُ). (الأنعام / 122)
وقوله تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَکَر أَو أُنثَى وَهُوَ مُؤمِنٌ فَلَنُحیِیَنَّهُ حَیَاةً طَیِّبَةً). (النحل / 97)
وقد أشارت الآیات القرآنیة وأکّدت مراراً على هذا النوع من الإحیاء الإلهی .
والأعلى من هذه المرحلة أیضاً ، هو مرحلة الإحیاء الأخرویة ، حیث یحیی سبحانه العظام وهی رمیم ، یُحییها حیاةً خالدة لا تعرف بعدها أی لون من الموت .
وعلى هذا الترتیب یکون اتّصاف الباری بصفة الحیاة (المحیی) فی الدنیا والآخرة مصدراً لأهم وأوسع مظاهر خلقه، وأمّا بلاغ هذه الصفة الإلهیّة ، فمن جهة الانتباه إلى هذه الحقیقة ، وهی کونه سبحانه (منبع) کل ألوان الحیاة ، لذا یجب أن نتوجّه إلیه سبحانه فی حفظ الحیاة الظاهریة والحیاة الباطنیة ، ونطلب منه الحیاة ، لأنّهُ مُحیی کلَّ شیء .
ومن جهة اُخرى إنّ التخلّق بهذه الصفة یُعَدُّ مصدراً لاعانة الحیاة المادیة والمعنویة للبشر ، ولتخلیص عباد الله من الموت ، ولمحاولة هدایتهم إلى الله وأعمال الخیر .
1. مقاییس اللغة; المفردات; لسان العرب; نهایة ابن الأثیر; والتحقیق فی کلمات القرآن الکریم.