أحد طرق الاخلاص من مخاطب العقوبات فی هذه الدنیا هو أن یتقبل شخص التبعات التی تترتب على الآخر نیابة عنه ویؤدّی الغرامات المالیة التی تحملها الشخص الآخر ویتقبل عقوبة ذنبه برحابة صدر وطیب نفس.
یبیّن القرآن الکریم فی الآیات المذکورة أعلاه والتی هی من صفات یوم القیامة عدم جواز إلقاء أوزار أعمال أحد على عاتق الآخرین مطلقاً، فالکل مسؤول عن أعماله وهو لوحده یتحمل جزاءها فیؤدّی ثمن ما اقترف من جرائم وذنوب.
ففی الآیة الاُولى التی وردت فی القرآن المجید مرتین قال تعالى: (وَاتَّقُوا یَوْماً لاَتَجْزِى نَفْسٌ عَنْ نَّفس شَیْئاً). (البقرة / 48 ـ 123)
وجاء هذا المعنى باختلاف ضئیل فی الآیة الثانیة، قال تعالى: (یَوْمَ لاَتَمْلِکُ نَفْسٌ لِنَفْس شَیْئاً). (الانفطار / 19)
وفی الآیة الثالثة رکّز على مورد متمیز فقال: (وَاخْشَوا یَوْماً لاَّ یَجْزِى وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَاز عَن وَالِدِهِ شَیْئاً). (لقمان / 33)
إنّ العلاقة بین الأب والأولاد تقوم على أساس «العاطفة والمحبّة»، وتقوم العلاقة بین الأولاد والأب على أساس «الاحترام والمحبّة»، وفی الواقع أنّ هاتین العلاقتین هما أقرب وأقوى الروابط العاطفیة لدى الإنسان، ولکن رعب وخوف یوم القیامة یبلغ حداً من الهول العظیم ممّا یجعل هذه الروابط تتلاشى وتذوى وتبلغ حدّاً یؤدّی إلى أن لا یفکّر أحد إلاّ بنفسه، دون غیره.
وأفادَ عدد من المفسرین فی تفسیر الآیات المذکورة بأنّ «لا تجزی» أتت بمعنى «لا تغنی»(1).
قال «الراغب» فی «المفردات»: الجزاء فی الأصل بمعنى الاستغناء والاکتفاء، واطلقوا على الثواب والعقاب جزاء لأنّهما یکفیان لإصلاح العمل المرتکب، وجاء نفس هذا المعنى فی مقاییس اللغة أیضاً.
ومن الجدیر بالذکر أنّ الخطاب فی الآیتین الاُولیین موجّهٌ إلى بنی اسرائیل الذین یضرب بهم المثل على مدى الدهور بالتعصّب العرقی والقومی، فالقرآن ینذرهم بقوله: أنتم الذین تحملون روح التعصب فیما بینکم فسوف تنسون کل شیء فی ذلک الیوم العظیم، کل شیء إلاّ أنفسکم.
والحقـائق الناصعة التی تحملها هذه الآیات لا تحتاج إلى توضیح; وذلک لأنّها تُثبتُ بـوضوح أنّ أهوال یوم القیامة والـوقائع الصعبـة التی تقـع فی ذلک الیـوم العظیم لا مثیل لها فی هذه الدنیا، ففی هذه الدنیا یوجد الکثیر ممن یضحّی للآخرین بنفسه من أجل الروابط العاطفیة، ولکن هذا الأمر لا یَصْدُق فی یوم القیامة على أحد.
1. تفسیر مجمع البیان، ج 1، ص 103; وتفسیر المیزان، ج 16، ص 251; وتفسیر روح البیان، ج 1، ص 127.
