کل ما قرأنا لحد الآن فی وصف ذلک الیوم کان یتحدّث عن الوقائع المزلزلة التی تقع فی مقدمة ذلک الیوم فی عالم الدنیا وإن کل وصف یحمل فی طیاته خطاباً خاصاً، ففی الوصف الأخیر طرحت مسألة طول وامتداد ذلک الیوم وهذا أیضاً یحمل انذاراً متمیزاً.
والآن نذهب صوب الأوصاف التی تصوّر حال الناس فی ذلک الیوم، ونلتفت إلى أنَّ تعبیرات کل واحد منها أقوى تأثیراً من الآخر وکأنّها تأخذ بید الإنسان وتسیر به فی اروقة المحشر وتعرفه على کل موضع منه فتجسّم له وقائع ذلک الیوم العظیم وکأنّه یراه بعینه المجردة.
فی الوصف الذی نتناوله بالبحث والذی ورد مرّة واحدة فی القرآن المجید فقط حیث یصور وضع الناس المروع فی ذلک الیوم بهذا النحو: (یَوْمَ یَکُونُ النَّاسُ کَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ).(القارعة / 4)
وجاء مثل هذا التعبیر ولکن باختلاف ضئیل عندما قال تعالى: (کَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ).(القمر / 7)
وللمفسرین آراء مختلفة فی سبب تشبیه الناس فی ذلک الیوم بالفراش، ومن جمله ما قالوا هو أنّ السبب فی هذا التشبیه هو کثرة الناس واضطرابهم وخوفهم وفرارهم فی کل صوب وضعفهم وتخبّطهم.
ومن الممکن أیضاً أن تکون هذه المسألة من مکنونات التعبیر المذکور أعلاه وهی أنّ الفراش عادةً یرمی بنفسه باتجاه نور الشمع والمصباح بصورة جنونیة فیحترق، وأنّ المجرمین أیضاً فی ذلک الیوم تعتریهم هذه الحالة عند مواجهتهم لنار جهنم، وکل هذا یدلّ على الحیرة والضلال الشدید والاضطراب والرعب العظیم الحاصل فی ذلک الیوم.
على أیّة حال فإنّه تعبیر ناطق وتصویر واضح عن حالة الناس العجیبة الحاصلة فی ذلک الیوم والتی عبّر عنها القرآن بتعبیر وجیز، ویرى البعض أنّ السبب فی دوران الفراشة حول النار حتى الاحتراق هو فقدانها للذاکرة، فإنّها تقترب من الشعلة وتحس بحرارتها فتهرب ولکنها تنسى بسرعة وتعود ثانیةً وتقترب من شعلة النار وتکرر هذا العمل حتى تلقی بنفسها فی النار وتحترق.
وکذلک الحال بالنسبة للمسیئین والمجرمین، فمن شدّة الاضطراب والجزع کأنّهم یفقدون صوابهم ویلقون أنفسهم فی النار کما تفعل الفراشات.
وذکر أهل اللغة والمفسرون معانی متعددة لـ«الفراش»: فالبعض فسّره بمعنى الجراد الذی ینتشر بکثافة فی السماء، والبعض فسّرها بمعنى البعوض الذی یطیر على شکل أفواج، ولکن أغلب المفسرین واللغویین فسروها بذلک المعنى وهو الفراش، على الأخص ما قاله «الخلیل بن أحمد» فی کتاب «العین» فإنّه قال: «الفراشُ التی تطیُر طالبةً للضوء» وقال فی صحاح اللغة أیضاً: «الفراش» جمع «فراشة» تلک الحشرة الطائرة التی تطیر وتقع فی النار.
