من أجل إیضاح المراد من الآیة الشریفة «آیة خیر البریّة» واستجلاء المفهوم منها نرى
من الضروری أن نشرع بشرح الآیة السادسة من سورة البیّنة :
(إنَّ الَّذِینَ کَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الکِتابِ وَالْمُشْرِکینَ فی نارِ جَهَنَّمَ خالِدینَ فِیهَا).
أی أن أهل الکتاب من الیهود والنصارى الذین لم یقبلوا بالإسلام وکذلک المشرکون وعبادة الأوثان یشترکون فی العاقبة والمصیرالاُخروی فجمیعهم یردون جهنم خالدین فیها.
(اُولِئکَ هُمْ شَرُّ الْبَریَّةِ).
وهذا هو السبب فی أنهم مخلّدون فی نار جهنم، وکأن هذه الجملة وردت فی مقام الدلیل لبیان سبب خلود هؤلاء فی نار جهنم(1).
ویستفاد من الآیات السابقة لهذه الآیة الشریفة أن هؤلاء لیسوا من الکفرة العادیین بل هم طائفة من الکفّار الذین فهموا الرسالة الإلهیة واتّضحت لدیهم الحجّة والبیّنة وعلموا بحقّانیّة الإسلام والرسالة السماویة ولکنّهم مع ذلک أصرّوا على عنادهم ولجاجتهم وانطلقوا فی عداءهم مع الحقّ والعدل من موقع الخصومة والعدالة، وعلیه فإنّ هذه الآیة لا تشمل کلُّ الکفّار والمشرکین وأهل الکتاب حتّى لو تحرّکوا فی خطّ الباطل والکفر من موقع الجهل والغفلة، فالخطأ الذی ینطلق من موقع الغفلة والإندفاع العفوی لیس کالخطأ الذی ینطلق من موقع التمرّد والجحود مع وعی الموقف ووضوح الرؤیة.
وبعد أن ذکرت الآیة الشریفة شرّ المخلوقات تحرّکت الآیة التی بعدها لبیان أفضل المخلوقات وقالت :
(إنَّ الَّذِینَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالحاتِ اُولِئکَ هُمْ خَیْرُ الْبَرِیَّةِ).
فقد ذکرت هذه الآیة الشریفة لأفضل مخلوقات الله ثلاث صفات وخصوصیات :
1 ـ «الَّذینَ آمَنُوا» فالخصوصیة الاُولى لهؤلاء هی إیمانهم بالله تعالى والنبی الأکرم (صلى الله علیه وآله)ویوم القیامة، وعلیه فإنّ المشرکین وجمیع الأشخاص الذین لا یدینون بدین الإسلام خارجون عن هذه الدائرة ولا یتّصفون بهذه الصفة الکریمة.
2 ـ (وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ) الخصوصیة الثانیة للأشخاص الذین هم «خیر البریّة» هو أنهم یتحرّکون فی واقعهم الإجتماعی من موقع العمل الصالح الذی یستوحی مقوّماته من الإیمان والإعتقاد فی عالم القلب والروح.
«العمل الصالح»(2) یتضمن معنىً عاماً وشاملاً، وقد ورد فی الروایات الشریفة أن أدنى مرتبة له هو «اِماطَةُ الاْذى عَن الطَّریقِ» وأعلى مرتبة له هو اعتناق دین الحقّ والشهادة بالتوحید «وأعْلاها شَهادَةُ اَنْ لا اِلهِ إلاّ الله»(3).
والخلاصة أن الصفة الثانیة لهؤلاء هی أنهم یعملون الأعمال الصالحة.
3 ـ (ذلِکَ لَمِنْ خَشِىَ رَبَّهُ) الخصوصیة الثالثة لهؤلاء الأشخاص هی أنهم یتمتعون بمقام «الخشیة» من الله تعالى، فمضافاً للإیمان والعمل الصالح فإنهم یعیشون حالة الخشیة والخضوع والإذعان للحقّ تعالى والتسلیم لأوامره وتعلیماته.
سؤال : هل أن «الخشیة» هی شیء آخر غیر الإیمان والعمل الصالح ؟
الجواب : نعم، إنّ الخشیة مرتبة أعلى من الإیمان والعمل الصالح، والظاهر أنها تعنی الإحساس بالمسؤولیة، فتارةً یعیش الإنسان الإیمان والعمل الصالح ولکن ذلک لا یعنی أنه یتحلّى بعنصر الإحساس بالمسؤولیة ولا یکون إیمانه وعمله الصالح مسترفداً من إحساسه بالمسؤولیة بل بسبب العادة والتربیة وأجواء الاُسرة والمحیط الإجتماعی، وتارةً اُخرى یتحرّک الإنسان فی إیمانه وعمله الصالح على أساس من أحساسه بالمسؤولیة، فمثل هذا الإنسان یتعامل مع الأحداث والأشخاص والمواقف المختلفة من منطلق إحساسه بالمسؤولیة ویکون سلوکه وممارساته فی حرکة الحیاة الفردیة والإجتماعیة قائمة على هذا الدافع النفسانی والوجدانی.
والنتیجة هی أن «خیر البریّة» هم الذین یتمتعون بثلاث صفات : الإیمان، العمل الصالح، الإحساس بالمسؤولیة.
وبعد ان تنتهی الآیة الشریفة من تعریف «خیر البریّة» وتبیین صفاتهم وخصائصهم تتعرض کذلک لبیان أجرهم وثوابهم عند الله وتقول :
(جَزائُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنّاتُ عَدْن تَجْری مِنْ تَحْتِهَا الاَنْهارُ).
إنّ ثواب «خیر البریّة» فی الدار الآخرة یتضمن الثواب المادی والمعنوی على السواء، لأن الإنسان مرکّب من جسم وروح، فجسمه یطلب الثواب المادی، وروحه تشتاق إلى الثواب المعنوی.
أما الثواب المادی لهؤلاء الصالحین فهو عبارة عن الجنّة الخالدة والبساتین الیانعة التی تجری من تحت أشجارها الأنهار(4) والمیاة العذبة بصورة دائمة.
البساتین على نحوین :
1 ـ البساتین التی تردُّ إلیها المیاه من خارجها ویتمُّ سقی أشجارها بالماء بین کلِّ حین وآخر وعلى فواصل زمنیّة معیّنة، فالمیاه لا تجری دائماً فی جداولها وسواقیها.
2 ـ البساتین التی تتوفر فیها المیاه بصورة دائمة وتجری فی سواقیها وبین أشجارها، وبلاشک أن مثل هذه البساتین تنعم أشجارها بطراوة خاصّة ومشهد جذّاب ولا یخشى علیها الجفاف والذبول، فبساتین الجنّة التی تقدّم وصفها فی الآیة الشریفة هی من النوع الثانی، فهی خضراء یانعة دائماً.
(خالِدینَ فِیها أَبَداً) فکما أن الکفّار والمشرکین وأهل الکتاب الذین وقفوا من الرسالة الإلهیة موقف المعاند والعدو مخلدون فی نار جهنم، وکذلک المؤمنون الذین یعیشون الإحساس بالمسؤولیة ویترجمون إیمانهم وإحساسهم هذا على مستوى الممارسة والأعمال الصالحة هم مخلدون فی الجنّة أیضاً.
(رَضِیَ اللهُ عَنْهُم وَرَضُوا عَنْهُ) وتشیر هذه الجملة إلى الثواب المعنوی لهؤلاء المؤمنین، وهو أن الله تعالى ینعم علیهم بالمواهب الاُخرویة العظیمة إلى درجة أنهم یعیشون الرضا والسرور الفائق، ومن جهة اُخرى فإنّ لطف الله تعالى ورحمته بهؤلاء یبلغ إلى الحدّ الذی یرضى الله عزّوجلّ عنهم.
فما أعظم هذا المقام الشامخ، وما أعظم هذه المرتبة السامیة التی لا تتصور فوقها مرتبة فی عالم الکمال والنعمة والسعادة.
والنتیجة التی نستخلصها من هذه الآیات الشریفة الثلاث أنها ذکرت خصوصیّات «شرُّ البریّة» وعقوباتهم فی الدار الآخرة، وکذلک صفات وخصوصیّات «خیر البریّة» وأجرهم وثوابهم عند الله فی یوم القیامة.