واصل الإمام (علیه السلام) بحثه السابق عن العصر الجاهلی ومن ثم زمان قیام رسول الله (صلى الله علیه وآله)وإنبثاق الدعوة الإسلامیة، لیتحدث هنا عن العصر الذی یعقب النبی الأکرم (صلى الله علیه وآله) حیث رسم صورة واضحة عنه وأزاح الستار لیکشف الحقائق فقال: «حَتَّى إِذَا قَبَضَ اللّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللّهُ عَلَیْهِ وَآلِهِ، رَجَعَ قَوْمٌ عَلَى الاَْعْقَابِ، وَغَالَتْهُمُ(1) السُّبُلُ، وَاتَّکَلُوا عَلَى الْوَلاَئِجِ(2)، وَوَصَلُوا غَیْرَ الرَّحِمِ، وَهَجَرُوا السَّبَبَ الَّذِی أُمِرُوا بِمَوَدَّتِهِ».
المراد من العبارة: «رَجَعَ قَوْمٌ عَلَى الاَْعْقَابِ»، العودة إلى الجاهلیة وإحیاء سنن ذلک الزمان والذی ظهر للأسف فی المجتمع الإسلامی بعد رسول الله (صلى الله علیه وآله)، فقد استحوذ الطالحون على مختلف المناصب وأقصى الصالحون وبرز حبّ الدنیا وأصبح بین المال العائد لجمیع المسلمین تحت تصرف طبقة معینة.
والعبارة: «وَغَالَتْهُمُ السُّبُلُ»، إشارة إلى اختلاف الآراء الذی ظهر بعد النبی الأکرم (صلى الله علیه وآله)وقد فسّر العدید من الأفراد محکمات الإسلام على ضوء میولهم ومنافعهم الشخصیة، وهذا ما أدّى إلى ضلالة الکثیر من الناس، وهى الضلالة التی عبّر عنها الإمام بالهلکة.
والمراد بالعبارة: «وَاتَّکَلُوا عَلَى الْوَلاَئِجِ» أنّ جماعة من المسلمین قد إختارت المنافقین بطانة لها.
والعبارة: «وَصَلُوا غَیْرَ الرَّحِمِ»، إشارة إلى الآیة الشریفة: (قُلْ لاَ أَسْأَلُکُمْ عَلَیْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِی الْقُرْبَى...)(3).
والعبارة: «وَهَجَرُوا السَّبَبَ الَّذِی أُمِرُوا بِمَوَدَّتِهِ»، تأکید آخر على هذا المعنى فی أنّهم مأمورون بمودة أهل البیت(علیهم السلام)واتّباع منهجهم، وإلاّ أنّهم ترکوهم واتبعوا غیرهم.
ثم خاض الإمام (علیه السلام) بصراحة أبعد بشأن الخلافة وتغییر أساسها فقال: «وَنَقَلُوا الْبِنَاءَ عَنْ رَصِّ(4) أَسَاسِهِ، فَبَنَوْهُ فِی غَیْرِ مَوْضِعِهِ»، رغم أنّ النبی الأکرم (صلى الله علیه وآله) عین خلیفته مراراً صراحة وکنایة فقال، تمسکوا بالقرآن والعترة، لکنّهم هدّموا هذا البنیان ونقلوه إلى موضع هش آخر.
ثم تطرق الإمام (علیه السلام) فی ختام الخطبة إلى صفات العامل الأصلی وراء ذلک التغییر فقال: «مَعَادِنُ کُلِّ خَطِیئَة، وَأَبْوَابُ کُلِّ ضَارِب فِی غَمْرَة(5). قَدْ مَارُو(6) فِی الْحَیْرَةِ، وَذَهَلُوا فِی السَّکْرَةِ عَلَى سُنَّة مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ: مِنْ مُنْقَطِع إِلَى الدُّنْیَا رَاکِن، أَوْ مُفَارِق لِلدِّینِ مُبَایِن».
فقد بیّن الإمام (علیه السلام) هذه الصفات الخمس لهم لیشیر إلى انحراف أفکارهم وأعمالهم من الجذور، فهم أفراد فاسدون ومفسدون ومغرورون وغافلون وغارقون فی الدنیا ومجانبون لدین الحق، وقد شبّههم الإمام (علیه السلام) بآل فرعون، وأحدى صفات آل فرعون أنّهم قسموا المجتمع إلى قسمین: الأقباط والأسباط، أو بعبارة أخرى آل فرعون وبنی اسرائیل، وقد تمتع الفریق الأول بکافة الامتیازات فی البلاد (مصر) ومرغوا اُنوف الفریق الثانی بالتراب، فکانوا یقتلون رجالهم ویسبون نسائهم وملأوا الأرض فساداً: (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِی الاَْرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِیَعاً یَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ یُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَیَسْتَحْىِ نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ کَانَ مِنْ الْمُفْسِدِینَ)(7).
فقد اعتمد خط النفاق الجاهلی بعد رسول الله (صلى الله علیه وآله) ذات السنة الفرعونیة، فقد اقتصرت کافة إمتیازات البلاد الإسلامیة على بنی اُمیة ولم یکن نصیب شیعة علی (علیه السلام) سوى القتل «تحت کل حجر ومدر» والتشرید والحبس والتعذیب، وقد ملؤا العالم الإسلامی بالفساد.
والعبارة: «مُنْقَطِع إِلَى الدُّنْیَا...»; إشارة إلى أنّ طائفة منهم قد أقبلت علانیة على الدنیا، فقد طاولت قصورهم عنان السماء، کما ذکر ترفهم وبذخهم بحیاة کسرى والقیصر، ویبدون أنّ من بین حاشیتهم ممن لا یبدی علاقة ظاهریة بالدنیا لکنه باع دینه بدنیا غیره ووضع له الأحادیث التی تصّرح بفضله ونسبها إلى رسول الله (صلى الله علیه وآله) ووجه أعماله القبیحة، ومصداق ذلک واضح للجمیع.