الاعتبار بالموتى

SiteTitle

صفحه کاربران ویژه - خروج
ورود کاربران ورود کاربران

LoginToSite

SecurityWord:

Username:

Password:

LoginComment LoginComment2 LoginComment3 .
SortBy
 
نفحات الولایة (شرحٌ عصرىٌّ جامعٌ لنهج البلاغة) / الجزء الخامس
القسم الخامس1 ـ سبل مواجهة التعلق بالدنیا

إختتم الإمام (علیه السلام) خطبته بالحدیث مرّة أخرى عن تقلب أحوال الدنیا وغدرها وتنکرها لمن تعلّق بها، إلى جانب الکلام عن المصیر الحتمی الذی ینتظر کل إنسان والذی یتمثل بمفارقة الدنیا والرحیل إلى عالم الآخرة، فقال (علیه السلام): «فَاعْلَمُوا ـ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ـ بِأَنَّکُمْ تَارِکُوهَا وَظَاعِنُونَ(1) عَنْهَا».

نعم، فلابدّ لکل إنسان أن یذوق طعم الموت: (کُلُّ نَفْس ذَائِقَةُ الْمَوْتِ...)(2).

وقال تعالى: (کُلُّ مَنْ عَلَیْهَا فَان * َیَبْقَى وَجْهُ رَبِّکَ ذُو الْجَلاَلِ وَالاِْکْرَامِ)(3).

ولعل الإنسان یشک فی کل شیء، غیر أنّه لا یشک فی حقیقة الموت: (واعْبُدْ رَبَّکَ حَتَّى یَأْتِیَکَ الیَقِینُ)(4).

ثم واصل الإمام (علیه السلام) کلامه بضرورة الاتعاظ بمن کان قبلهم من الاُمم ممن غرّتهم قواهم، فلم تنفعهم تلک القوّة شیئاً حتى حملوا راغمین إلى قبورهم، فلم یحلوا ضیوفاً على تلک القبور بعد أن ورد وهاقراً وإکراهاً دون أن یکون لهم أدنى إرادة واختیار: «وَاتَّعِظُوا فِیهَا بِالَّذِیْنَ قَالُوا: (مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً)(5). حُمِلُوا إِلَى قُبُورِهِمْ فَلا یُدْعَوْنَ رُکْبَان(6)، وَأُنْزِلُوا الاَْجْدَاثَ(7) فَلاَ یُدْعَوْنَ ضِیفَاناً».

ولعل العبارة إشارة لما ورد فی الآیة 15 من سورة فصلت القائلة: (فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَکْبَرُوا فِی الاَْرْضِ بِغَیْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً...).

فالمعروف أنّ قوم عاد کانوا ذوی جثث ضخمة وقصور وبیوت فارهة عملاقة ینحتونها وسط الجبال، الأمر الذی جعلهم یصابون بالکبر والغرور، فلمّا عتوا عن أمر الله وعصوه أرسل الله علیهم ریحاً عاتیة فأحالت جثثهم الضخمة إلى ما یشبه أوراق الأشجار التی تتناثر على الأرض، حیث حدّث عنهم القرآن الکریم بهذا الشأن قائلاً: (إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَیْهِمْ رِیحاً صَرْصَراً فِی یَوْمِ نَحْس مُسْتَمِرّ * تَنزِعُ النَّاسَ کَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْل مُنْقَعِر).(8)

أمّا قوله (علیه السلام) «فَلا یُدْعَوْنَ رُکْبَاناً» والرکبان جمع راکب وذلک لأنّ الراکب من یکون مختاراً، ولا اختیار لهؤلاء، وقوله (علیه السلام) «فَلاَ یُدْعَوْنَ ضِیفَاناً» لأنّ الضیف یرد برغبته وإرادته إلى المکان الذی یستقبل فیه، وقد ورد مثل هذا المعنى فی الخطبة 188 من نهج البلاغة إذ قال (علیه السلام): «حُمِلُوا إِلَى قُبُورِهِمْ غَیْرَ رَاکِبینَ، وَأُنْزِلُوا فِیهَا غَیْرَ نَازِلِینَ».

ثم قال الإمام (علیه السلام) مواصلة لوصفهم: «وَجُعِلَ لَهُمْ مِنَ الصَّفِیحِ(9) أَجْنَانٌ(10)، وَمِنْ التُّرَابِ أَکْفَانٌ، وَمِنْ الرُّفَاتِ(11) جِیرانٌ».

فالعبارة إشارة إلى أنّ قبورهم خالیة من البناء والسقوف والأعمدة والأبواب والنوافذ، فهى لیست أکثر من قبضة من الحجر والتراب على وجه الأرض، والتعبیر عن التراب بالکفن فذلک لأنّه یحیط ببدن المیت ویواریه کالکفن، وأمّا ذلک الکفن الذی یلف به المیت فهو مؤقت سرعان ما یبلى ویزول، ولا یبقى سوى الکفن الأصلی وهو التراب.

والجدیر بالذکر هو أنّ الإمام (علیه السلام) واصل کلامه بالحدیث عن هؤلاء الجیران وهم لیسوا أکثر من عظام نخرة، فیکشف النقاب عن حقیقة وضعهم بعبارات غایة فی الجمال والروعة، وبما یدعو للتأمل والاعتبار: «فَهُمْ جِیرَةٌ لاَ یُجِیبُونَ دَاعِیاً، وَلاَ یَمْنَعُونَ ضَیْم(12)، وَلاَ یُبَالُونَ مَنْدَبَةً(13)».

أضف إلى ذلک فهم على درجة من عدم الإکتراث بأی شیء بحیث: «إِنْ جِیدُو(14) لَمْ یَفْرَحُوا، وَإِنْ قُحِطُوا لَمْ یَقْنَطُوا. جَمِیعٌ وَهُمْ آحَادٌ، وَجِیرَةٌ(15) وَهُمْ أَبْعَادٌ. مُتَدَنُونَ لاَ یَتَزَاوَرُونَ، وَقَرِیبُونَ لاَ یَتَقَارَبُونَ».

حقاً، أنّهم عبرة لمن اعتبر وأوضاعهم مدعاة إلى التأمل والنظر، فکل شأن من شؤونهم یختلف تماماً وما علیه الحال بالنسبة لأهل الدنیا، فقد کانوا معاً حتى أمس القریب، ینجد بعضهم البعض الآخر، یهرعون لاستقبال السنین التی تدر علیهم النعم والمنافع، بینما کانوا ینزعجون من القحط والجدب، کما کانوا یطوون المسافات القریبة والبعیدة لرؤیة بعضهم البعض الآخر، لکن دون خبر عن أوضاعهم وما علیه أحوالهم، قبورهم متصلة متلاصقة مع بعضها، إلاّ أنّ المسافة بینهما کأنّها ما بین المشرق والمغرب، ومن کان منهم یأن لیل نهار من عذاب البرزخ فلا یسمع أنینه أقرب مقربیه من صحبه من أهل القبور، بل حتى لو سمع صراخه وألمه لما وسعه نجدته وتقدیم العون له.

وما أروع ما کان یردده الإمام السجاد (علیه السلام) حین مناجاته باکیاً وهو یجسد ما أورده الإمام علی (علیه السلام) بهذا الشأن، إذ کان یقول:

وأضحَوا رِمِیماً فِی التُّرابِ وَاقفَرَتْ *** مَجالِسُ مِنهُم عُطِّلَتْ وَمَقـاصِرُ

وَحَلُّوا بِدار لا تَزاورُ بَینَهُم *** وَأنّى لِسُکانِ القُبُورِ تَزاوُرُ

فَما أن تَرى إلاّ جُثىً قَدْ تَوَوا بِها *** مُسَنَّمَةً تَسفِى عَلَیهِ الأعاصِیرُ(16)ثم واصل الإمام (علیه السلام) حدیثه عن أصحاب القبور بأنّهم عقلاء قد ذهبت عداوتهم وخصومتهم، وفی نفس الوقت هم جهّال قد طرحت أحقادهم وأضغانهم، فلییس هناک ما یدعو للخشیة من ضررهم وشرهم، کما لا یؤمل أن یدافعوا عن أنفسهم، فقد انسلخوا من ظاهر الأرض لیوطنوا باطنها، فاستبدلوا بتلک السعة ضیقاً وبالأهل والوطن والنور غربة وظلمة: «حُلَمَاءُ قَدْ ذَهَبَتْ أَضْغَانُهُمْ. وَجُهَلاَءُ قَدْ مَاتَت أَحْقَادُهُمْ، لاَ یُخْشَى فَجْعُهُمْ، وَلاَ یُرْجَى دَفْعُهُمْ، اِسْتَبْدَلُوا بِظَهْرِ الاَْرْضِ بَطْنَاً، وَبِالسَّعَةِ ضِیقاً، وَبِالاَْهْلِ غُرْبَةً، وَبِالنُّورِ ظُلْمَةً».

والعجیب فی الأمر أنّه یصفهم فی عبارة بالعقلاء، ثم یردفها بالعبارة التالیة بوصفهم بالجهلاء، والواقع هو أنّهم جثث خاویة قد خلت من الأرواح، فهم لیسوا بعقلاء ولا جهلاء، بل وضعهم فی موضع جعلهم أشبه بالعقلاء حیث زالت العداوة بینهم، وفی موضع آخر تشبهوا بالجهلاء حیث ماتت بینهم روح الحسد ودوافعه، فقد تغییرت جمیع مفرداتهم فی لحظة حیث استبدلوا بظاهر الأرض باطنها وبالدور الواسعة المنیرة الملیئة بالأهل والعیال، القبور الضیقة والمظلمة الموحشة الخالیة من الصخب والضجیج.

ثم إختتم حدیثه (علیه السلام) بالقول: «فَجَاءُوهَا کَمَا فَارَقُوهَا، حُفَاةً عُرَاةً»(17).

والعبارة مستوحاة من الآیة القرآنیة الشریفة: (مِنْهَا خَلَقْنَاکُمْ وَفِیهَا نُعِیدُکُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُکُمْ تَارَةً أُخْرَى)(18).

نعم کما خلق آدم (علیه السلام) من التراب، کذلک أولاده سیعودن حفاة عراة إلى هذه الأرض على غرار ولادتهم وقدومهم إلیها، وإن حملوا معهم کفناً، فهو لیس کذلک فی الواقع، إذا سرعان ما یبلى ویزول ولا یعدّ له من وجود، بالتالی سیودع هذا الإنسان شاء أم أبى یوماً کل ما جمعه من أموال وأعدّ لنفسه من قصور ودور فارهة وحدائق ومراکب وإمکانات ووسائل، لینزل تلک الحفرة حافیاً عریاناً وعلیه أن یستعد لتلک الظلمة والوحشة.

نعم، الشیء الوحید الذی یحمله معه هو عمله والذی قد یکون أحیاناً وبالاً علیه وأعظم بلاء یصیبه، وهو الأمر الذی أکّده الإمام (علیه السلام) فقال: «قَدْ ظَعَنُوا عَنْهَا بأَعْمَالِهِمْ إِلَى الْحَیَاةِ الدَّائِمَةِ وَالدَّارِ الْبَاقیَةِ، کَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: (کَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْق نُعِیدُهُ وَعْداً عَلَیْنَا إِنَّا کُنَّا فَاعِلِینَ)(19)».

فالواقع هو أنّ الإمام (علیه السلام) أشار فی ختام هذه الخطبة إلى نقطتین:

الأولى: عودة الإنسان إلى الأرض کما خلق منها.

والثانیة: النشأة الجدیدة فی الآخرة.

ثم استشهد (علیه السلام) بالآیة القرآنیة الکریمة: (کَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْق نُعِیدُهُ وَعْداً عَلَیْنَا إِنَّا کُنَّا فَاعِلِینَ)، لکی لا یبقى أدنى مجال للشک فی حقیقة عودة الإنسان إلى التراب الذی خلق منه فیرى هناک جزاء أعماله من ثواب أو عقاب.


1. «ظاعنون»: من مادة «ظعن» على وزن دفن بمعنى السفر والرحیل.
2. سورة العنکبوت / 57.
3. سورة الرحمن / 27 ـ 28.
4. سورة الحجر / 99.
5. سورة فصلت / 15.
6. «رکبانا»: صرّح بعض شرّاح نهج البلاغة أنّ العرب إعتادت الاصطلاح بالرکبان على من یرکب مختاراً وله التصرف فی مرکوبه، فان نزلوا سموا ضیفان، أمّا الموتى الذین یحملون إلى قبورهم فلا یدعون رکباناً ولا ضیفان.
7. «الاجداث»: جمع «جدث» على وزن قفص بمعنى القبور.
8. سورة القمر / 19 ـ 20.
9. «صفیح»: وردت هنا بمعنى وجه الأرض، من مادة «صفح» على وزن مدح.
10. «أجنان»: جمع «جنن» على وزن کفن بمعنى القبر، وأصلها بمعنى التغطیة والستر، ولما کان القبر یستر بدن المیت فقد اطلق علیه الجنن.
11. «رفات»: بمعنى کل شیء بالی ومتعفن، کما یراد بها العظام المندقة المحطومة والمتنافرة.
12. «ضیماً»: له مفهوم المصدر واسم المصدر ویعنی الظلم.
13. «مندبة»: من مادة «ندبة» بمعنى البکاء.
14. «جیدوا»: من مادة «جود» على وزن قوم مبنی للمجهول بمعنى مُطروا.
15. «جیرة»: جمع «جار» وغالباً ما تجمع جیران.
16. منها البراعة 8/ 25، وردت هذه الأشعار فی حاشیة بحار الانوار بعنوان مناجاة للإمام السجاد(علیه السلام)نقلاً عن البدایة والنهایة، لابن کثیر (بحار الانوار 46/48).
17. اختلفت أقوال شرّاح نهج البلاغة لهذه العبارة، ویبدو الأنسب هو ما أوردناه سابقاً.
18. سورة طه / 55.
19. سورة الانبیاء / 104.

 

القسم الخامس1 ـ سبل مواجهة التعلق بالدنیا
12
13
14
15
16
17
18
19
20
Lotus
Mitra
Nazanin
Titr
Tahoma