بیّن الإمام (علیه السلام) فی هذا المقطع من الخطبة أهداف الحکومة الإسلامیة ـ ومنها حکومته ـ بعبارات غایة فی الروعة والدقة لیضمنها دروساً خالدة لجمیع الحکّام المؤمنین والمخلصین فقال: «اللَّهُمَّ إِنَّکَ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ یَکُنِ الَّذِی کَانَ مِنَّا مُنَافَسَةً(1) فِی سُلْطَان، وَلاَ الِْتمَاسَ شَىْء مِنْ فُضُولِ الْحُطَامِ».
ربّما کانت هذه العبارة إشارة إلى أصل قبول بیعة الاُمة على الخلافة، أو إشارة إلى المعارک التی وقعت بینه وبین الأعداء فی صفین وأمثالها، وهى تعکس الأهداف الرئیسیة لحکّام الاستبداد الذین یهدفون إلى أمرین: الحصول على المنصب مهما کان الثمن والاستیلاء على الأموال أینما کانت ومن أی کان، والواقع لیس ذلک سوى حب الجاه وحب المال الذی ساد تاریخ البشر واجتاح حتى الحکومات المستبدة، وقد أثبت الإمام (علیه السلام) عملیاً ما قال، فقد اشترط على الإمام (علیه السلام) من قبل الشورى التی عینها عمر نیل الخلافة شریطة الانحراف عن مسار رسول الله (صلى الله علیه وآله) فلم یستجب الإمام (علیه السلام) کما وقف بقوّة بوجه طلحة والزبیر وما قدماه من اقتراح لیس بصواب، کیف یستجیب لهما الإمام (علیه السلام) هو یرى الدنیا کعطفة عنز، ثم بیّن الإمام أهدافه الأربعة من أجل قبول الحکومة وهى: «وَلکِنْ لِنَرِدَ(2) الْمَعَالِمَ مِنْ دِینِکَ، وَنُظْهِرَ الاِْصْلاَحَ فِی بِلاَدِکَ، فَیَأْمَنَ الْمَظْلُومُونَ مِنْ عِبَادِکَ، وَتُقَامَ الْمُعَطَّلَةُ مِنْ حُدُودِکَ».
فالواقع أشار الإمام (علیه السلام) فی العبارات الأربع التی أوردها کدافع أصلیة لقبول البیعة، إلى برامجه المعنویة فی الحکومة ومشاریعه المادیة والظاهریة، فلابدّ فی الدرجة الأولى من إعادة معالم الدین التی تعین للناس مسیرتها نحو الله سبحانه وقد اندثرت بفعل الحکومات المستبدة، ومن ثم الإصلاحات فی کافة الشؤون الاجتماعیة والسیاسیة والاقتصادیة والأخلاقیة، ونصرة المظلوم من الظالم وإجراء الحدود الإلهیّة بحیث یشعر المظلومون بالأمن والاستقرار حقاً، وإن کان هذه الأهداف الأربعة هى مراد الحکومات لعاشت المجتمعات السعادة والمادیة والمعنویة، وإن کان هدفهم الحصول على المناصب ونیل الأموال والثروات، فلیست هناک من نتیجة سوى الفساد والظلم وتعطیل الحدود الإلهیّة ومحو الأخلاق والدین، وهذا بحدّ ذاته درس لجمیع المسلمین فی کافة الأزمنة والعصور، وهذه هى الأمور التی ذکرها القرآن الکریم کأهداف لبعثة الأنبیاء وتشکیل الحکومة الإسلامیة، فقد ذکر التعلیم والتهذیب والنجاة من الظلال المبین کهدف للبعثة فقال: (هُوَ الَّذِی بَعَثَ فِی الاُْمِّیِّینَ رَسُولا مِنْهُمْ یَتْلُو عَلَیْهِمْ آیَاتِهِ وَیُزَکِّیهِمْ وَیُعَلِّمُهُمْ الْکِتَابَ وَالْحِکْمَةَ وَإِنْ کَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِی ضَلاَل مُبِین)(3)، کما ذکر فی موضع آخر هذا الهدف المتمثل ببسط العدل والقسط: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَیِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْکِتَابَ وَالْمِیزَانَ لِیَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ...)(4)، کما قال: (الَّذِینَ إِنْ مَکَّنَّاهُمْ فِی الاَْرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّکَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْکَرِ وَللهِِ عَاقِبَةُ الاُْمُورِ)(5).
ثم إختتم الإمام (علیه السلام) هذا المقطع من الخطبة بذکر شهادة واضحة على صدق قوله بالنسبة لداوفعه فی قبول البیعة فقال: «اللَّهُمَّ إِنِّی أَوَّلُ مَنْ أَنَابَ، وَسَمِعَ وَأَجَابَ، لَمْ یَسْبِقْنِی إِلاَّ رَسُولُ اللّهِ (صلى الله علیه وآله) بِالصَّلاَةِ».
إشارة إلى أنّ الإسلام کان غریباً آنذاک، والرسول لوحده ولیس إلى جانبه سوى خدیجة (علیها السلام) زوجته الوفیة، فکان الجهر بالإسلام إزاء المشرکین المتعصبین غایة فی الخطورة، فقد بایع رسول الله (صلى الله علیه وآله) وإنقاد له، فکان أول من إلتحق به، ولم یکن همّه سوى طاعة الله سبحانه وإحیاء الحق والتوحید والعدل، ومازال ذلک الهدف هوالدافع له من أجل قبول البیعة.
لیس هناک من خلاف بین علماء الفریقین بشأن خدیجة على أنّها أول إمرأة أمنت بالنبی الأکرم (صلى الله علیه وآله) وأنّ علیاً (علیه السلام) أول من آمن به من الرجال، وإن تذرع البعض من علماء العامّة بصغر سن علی حین أمن، لیسقطوا عنه تلک الفضیلة ویلصقوها بالآخرین، ولکن یتضح خواء هذه الذریعة من خلال قبول النبی الأکرم (صلى الله علیه وآله) لإسلام علی (صلى الله علیه وآله) وأبعد من ذلک تسمیته بوصیّه فی یوم الدار(6).