کما ورد سابقاً فانّ هذه الخطبة تشیر إلى الحوادث المستقبلة حیث تطرقت إلى ثلاث حوادث، الاُولى عدّها أغلب شرّاح نهج البلاغة فی الإمام المهدی (علیه السلام)، لأنّه قال یجعل رغبات النفس وهواجس القلب تابعة للهدى حین یسود العکس باتباع الهدى للهوى، ویجعل الرأی والفکر منقاداً للقرآن فی الوقت الذی یجعلون القرآن فیه تابعاً للرأی: «یَعْطِفُ(1) الْهَوَى عَلَى الْهُدَى، إِذَا عَطَفُوا الْهُدَى عَلَى الْهَوَى، وَیَعْطِفُ الرَّأْیَ عَلَى الْقُرْآنِ إِذَا عَطَفُوا الْقُرْآنَ عَلَى الرَّأْیِ».
والسؤال هل للعبارتان مفهوم واحد ویؤکد کل منهما الآخر؟ أم أنّ العبارة الاُولى إشارة إلى الهدایة العقلیة والعبارة الثانیة إلى الهدایة القرآنیة؟ یبدو المعنى الثانی أنسب، یعنی فی ذلک الیوم الذی یغیب فیه الناس منطق العقل والهدایة بسبب عبادة الهوى فانّه یزیل حجب الهوى، ویجعل السیادة لهدایة العقل، کما یجعل القرآن هو میزان التقییم بعد أن یقصی التفسیر بالرأی حین یحاول ذوی الاطماع تطبیق النصوص القرآنیة على ضوء تفسیرهم إیّاه حسب أرائهم من أجل تحقیق أطماعهم للامشروعة، ولو تأملنا أسباب البؤس والشقاء لرأیناها تتمثل بهذین الدائین، تحکیم هو النفس على العقل وتطبیق الرغبات الخفیة على آیات القرآن من التفسیر بالرأی، وإن زال هذان السبیلان تمهد السبیل من أجل بلوغ حکومة العدل الإلهی، ولعل جمیع القضایا التی أصابت المسلمین منذ البدایة لحدّ الآن إنما تعود إلى هذین الانحرافین کما یعود سبیل الصلاح إلى إصلاحهما.
ذکر العلماء فی بحث المعرفة أنّ الهوى من بین حجب المعرفة، حیث قال القرآن الکریم: (أَفَرَأَیْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْم وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً...)(2).
وما أورع ما قال أمیر المؤمنین علی (علیه السلام) فی الخطبة 109: «وَمَنْ عَشِقَ شَیْئاً أَعْشَى بَصَرَهُ»، والتفسیر بالرأی وحمل الآیات القرآنیة علیه إحدى مکائد الشیطان الکبرى فی تحریف العبارات عن معناها الواقعی وإسقاط الوحی عن قیمته، ومن هنا فقد عدت الأحادیث الإسلامیة هذا العمل بمنزلة الکفر حیث قال الإمام الصادق (علیه السلام): «مَنْ فَسَّرَ بِرَأیهِ آیَةً مِنْ کِتَابَ اللهِ فَقَد کَفَرَ»(3)، ولمّا کان الوقوف بوجه هذین الانحرافین من خصائص الإمام المهدی (أرواحنا فداه) فانّ الضمیر فی هذه العبارات یعود کما یعتقد شرّاح نهج البلاغة إلى الإمام المهدی (علیه السلام).