أشار الإمام (علیه السلام) فی هذا المقطع من الخطبة مواصلة لذمّ الحیاة المادیة الدنیویة إلى صفة أخرى من صفاتها البارزة الأخرى والمتمثلة بسرعة تغیّرها وتبدّلها، إلى جانب تبدّل نعمها ونقمها، فلم یصب أحد منها سروراً إلاّ أتبعته حزناً وحسرة، ولم یذق حلاوتها إلاّ استشعر مرارتها: «لَمْ یَکُنِ امْرُؤٌ مِنْهَا فِی حَبْرَة إِلاَّ أَعْقَبَتْهُ بَعْدَهَا عَبْرَةٌ، وَلَمْ یَلْقَ فِی سَرَّائِهَا بَطْناً، إِلاَّ مَنَحَتْهُ(1) مِنْ ضَرَّائِهَا ظَهْراً».
ثم أکّد (علیه السلام) هذا المعنى بأنّه لم یستشعر هبوب الریاح اللطیفة والأمطار الملائمة حتى یغرق فی سبیل من البلاء: «وَلَمْ تَطُلَّهُ(2) فِیهَا دِیْمَةُ(3) رَخَاء، إِلاَّ هَتَنَتْ(4) عَلَیْهِ مُزْنَةُ(5) بَلاَء».
ومن هنا فلا وجه للغرابة والتعجب إذا انتصرت لأحد صباحاً تنکرت له مساءاً، وإن حملت بید ظرفاً حلواً حملت بأخرى ظرفاً مرّاً: «وَحَرِیٌّ إِذَا أَصْبَحَتْ لَهُ مُنْتَصِرَةً أَنْ تُمْسِیَ لَهَ مُتَنَکِّرَةً، وَإِنْ جَانِبٌ مِنْهَا اعْذَوْذَبَ(6) وَاحْلَوْلَى(7)، أَمَرَّ مِنْهَا جَانِبٌ فَأَوْبَى!(8)».
نعم، هذه هى طبیعة الدنیا وستکون کذلک، حیث تستحیل حلاوتها مرارة، ونصرها هزمة، وحیاتها موتاً، ولیست هناک أیة قدرة یسعها الحیلولة دون هذه الاستحالة والتغییر.
ثم واصل (علیه السلام) تأکید هذه الحقیقة فی أنّ الإنسان لا یصیب منها لذّة ونعمة إلاّ أتبعته غصّة ورهقة، ودفعت به إلى ما یتعبه من الشدائد والنوائب، فلا یکاد یتمتع بلذّة الأمن حتى یزعجه ألم الخوف والخطر: «لاَیَنَالُ امْرُؤٌ مِنْ غَضَارَتِهَ(9) رَغَباً، إِلاَّ أَرْهَقَتْهُ(10) مِنْ نَوَائِبِهَا تَعَباً، وَلاَ یُمْسِی مِنْهَا فِی جَنَاحِ أَمْن، إِلاَّ أَصْبَحَ عَلَى قَوَادِمِ(11) خَوْف».
أجل، لیست هناک من فاصلة یؤبه بها فی هذه الدنیا لا مکانیة ولا زمانیة بین السعادة والشقاء، فقد تراه أحیاناً جن علیه اللیل وقد غرق فی لذاته وشهواته وهنیىء عیشه ودعته فی هالة من فرحه وسروره، ولم یکد یطلع الصبح علیه حتى تتعالى الأصوت بالنحیب والبکاء تنعى فقده ومفارقته لهذه الدنیا، بل لعله یتجرع کأس المنون من ید أقرب مقربیه:
ثم استمر (علیه السلام) فی الحدیث عن غرور الدنیا وزوالها فقال: «غَرَّارَةٌ، غُرُورٌ مَا فِیهَا، فَانِیَةٌ، فَان مَنْ عَلَیْهَا، لاَ خَیْرَ فِی شَىْء مِنْ أَزْوَادِهَا إِلاَّ التَّقْوَى. مَنْ أَقَلَّ مِنْهَا اسْتَکْثَرَ مِمَّا یُؤْمِنُهُ. وَمَنِ اسْتَکْثَرَ مِنْهَا اسْتَکْثَرَ مِمَّا یُوبِقُهُ(12)، وَزَالَ عَمَّا قَلِیل عَنْهُ».
وهکذا أورد الإمام (علیه السلام) هذه الصفات التی تصور تغیر أحوال الدنیا وعدم ثباتها وأفول قدرتها وزوال موفقیاتها لیخلص إلى نتیجة مفادها ضرورة قناعة العاقل بالقلیل منها (على قدر الکفاف) لیمهد السبل أمام أمنه واستقراره وراحة باله، وذلک لأنّ من طلب المزید فیها غامر بنفسه وقذف بها فی لهوات المخاطر، فیکون بذلک قد مهد السبیل أمام شقاء نفسه وبؤسها.