کما ذکرنا فانّ الإمام (علیه السلام) أورد هذا الکلام حین نفی أبو ذر من قبل عثمان إلى الربذة، جاء فی الخبر: لما أخرج أبو ذر إلى الربذة أمر عثمان، فنودی فی الناس ألا یکلم أحد أبا ذر ولا یشیعه، وأمر مروان بن الحکم أن یخرج به، فخرج به، وتنحّى عنه الناس إلاّ علی بن أبی طالب(علیه السلام)وعقیلاً أخاه وحسناً وحسیناً (علیهما السلام) وعماراً (رحمه الله)، فانّهم خرجوا معه یشیعونه، فجعل الحسن (علیه السلام)یکلم أبا ذر، فقال مروان إیها حسن ألا تعلم أنّ أمیر المؤمنین (عثمان) قد نهى عن کلام هذا الرجل، فان کنت لا تعلم فاعلم ذلک، فحمل علی (علیه السلام) على مروان فضرب بالسوط بین أذنی راحلته وقال: تنحّ لحالک الله إلى النار، فرجع مروان مغضباً إلى عثمان فأخبره الخبر(1).
وهنا وقف أبو ذر (رحمه الله) فودعه القوم، وخطب الإمام (علیه السلام) بهذه الکلمات التی تتضمن کل واحدة منها نقطة مهمّة بهدف مواساة أبی ذر وتحمله المصاعب التی ستواجهه فی المستقبل، فقد أشار (علیه السلام) إلى ست نقاط فقال أولاً:«یَا أَبَا ذَرٍّ، إِنَّکَ غَضِبْتَ لِلّهِ، فَارْجُ مَنْ غَضِبْتَ لَهُ».
أمّا قوله (علیه السلام) فارج من غضبت له ولم یقل ارج الله، فالواقع بیّن الإمام (علیه السلام) دلیل ذلک الأمل، لأنّ کل شخص یغضب لآخر بالنسبة لشیء یؤذیه، فمن الطبیعی أنّ ذلک الشخص سیقف إلى جانبه.
وقال فی الثانیة: «إِنَّ الْقَوْمَ خَافُوکَ عَلَى دُنْیَاهُمْ، وَخِفْتَهُمْ عَلَى دِینِکَ، فَاتْرُکْ فِی أَیْدِیهِمْ مَا خَافُوکَ عَلَیْهِ، وَاهْرُبْ مِنْهُمْ بِمَا خِفْتَهُمْ عَلَیْهِ».
إشارة إلى أنّهم شعروا بالخطر على حکومتهم ومنافعهم المادیة إثر صراحة کلامک فی الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر، فلم یستطیعوا تحمل وجودک فی المدینة، لکنّک قاطعتهم ولم تقبل بذلهم، وذلک لأنّک شعرت بالخطر على دینک، فلما قمت بوظیفتک واطلعت الناس على أعمال هؤلاء الحکام، فاترکهم واهرب بدینک وإیمانک.
ثم قال الإمام (علیه السلام): «فَمَا أَحْوَجَهُمْ إِلَى مَا مَنَعْتَهُمْ، وَمَا أَغْنَاکَ عَمَّا مَنَعُوکَ! وَسَتَعْلَمُ مَنِ الرَّابِحُ غَداً، وَالاَْکْثَرُ حُسَّداً»، فهم بحاجة إلى دینک، الدین الذی لم تکن مستعداً للتضحیة به من أجل دنیاهم، لکنّک لست بحاجة إلى دنیاهم وإن منعوها عنک(2)، والعبارة «وستعلم...» مواساة أخرى لأبی ذر فعمر الدنیا قصیر کأنه ویوم وغدا تقوم القیامة، أنذاک سیفتضح الظلمة عبدة الدنیا ویغبطون الأتقیاء على درجاتهم العالیة، ثم ضاعف من ذلک الرجاء فی قلب أبی ذر فقال فی الثالثة: «وَلَوْ أَنَّ السَّموَاتِ وَالاَْرَضِینَ کَانَتَا عَلَى عَبْد رَتْق(3) ثُمَّ اتَّقَى اللّهَ لَجَعَلَ اللّهُ لَهُ مِنْهُمَا مَخْرَجاً!».
والواقع هو أنّ هذه العبارة إشارة إلى الآیة الشریفة: (وَمَنْ یَتَّقِ اللهَ یَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَیَرْزُقْهُ مِنْ حَیْثُ لاَ یَحْتَسِبُ)(4).
ثم قال فی الرابعة والخامسة: «لاَ یُؤْنِسَنَّکَ إِلاَّ الْحَقُّ، وَلاَ یُوحِشَنَّکَ إِلاَّ الْبَاطِلُ».
فلیکن أنسک فی الحق ولا تخشى شیئاً مادمت فی هذا السبیل، ولتکن وحشتک من الباطل وإنّک لسعید مادمت هارباً من الباطل، فلا ضیر علیک إنّک قمت لله وأمرت بالمعروف ونهیت عن المنکر فی الله، فلو قبلت دنیاهم وعاونتهم فی نیل أطماعهم المادیة لأحبّوک، ولو أخذت من ذلک شیئاً وهادنتهم لأمنوک، ولذا قال فی السادسة: «فَلَوْ قَبِلْتَ دُنْیَاهُمْ لاََحَبُّوکَ، وَلَوْ قَرَضْتَ(5) مِنْهَا لاََمَّنُوکَ»، فهم تجار ظلمة ذائبون فی الدنیا وأهل معاملة فیها، فمن وافق على مظالمهم وهادنهم بقبول سهم من أموالهم، أحبّوه وقدّسوه ودافعوا عن ماله وعرضه.
فعبارته (علیه السلام) مواساة لأبی ذر من جانب وصاعقة شدیدة على الحکام الظلمة من جانب آخر، فالحق أن نفی «أبوذر» ذلک العبد الصالح والزاهد الورع کان نموذجاً للأمر بالمعروف والنهی عن المنکر کان وصمة عار فی جبین الحکام الظلمة وأعوانهم، فقد کانوا یعلمون أنّ لسان ذلک الصحابی الجلیل یعدل مئة ألف سیف.