من الحوادث الألیمة فی التاریخ الإسلامی أن یبتلى إمام عالم وکفوء مقتدر کعلی (علیه السلام) بناس جهّال وعبدة للأهواء یعیشون النتاحر والفرقة، فقد کانوا وسائل سیئة لإقامة حکومة الحق والعدل، وقد رأینا منذ بدایة الکتاب لحدّ الآن فی مختلف خطب نهج البلاغة أنّ الإمام علی (علیه السلام)کان یتألم بشدّة من هذا الأمر وکان دائم الشکوى، باحثاً عن مختلف الأسالیب لعلاج أمراضهم النفسیة والأخلاقیة، فقد قال (علیه السلام) مستهلاً هذه الخطبة: «أَیَّتُهَا النُّفُوسُ الُْمخْتَلِفَةُ، وَالْقُلُوبُ الْمُتَشَتِّتَةُ، الشَّاهِدَةُ أَبْدَانُهُمْ، وَالْغَائِبَةُ عَنْهُمْ عُقُولُهُمْ».
فقد رکز الإمام (علیه السلام) هنا على الجذور الأصلیة لداء المجتمعات والاُمم، ألا وهو الاختلاف والتشتت والذی یؤدّی إلى النزاعات وهدر الطاقات، والعبارة: «الشَّاهِدَةُ أَبْدَانُهُم...» إشارة إلى حضورهم الجسمانی فی المجتمع وغیابهم الفکری والروحی عن الحوادث الخطیرة التی تصیب المجتمع، أمّا أهمیة هذا الموضوع فقد دفعت بالإمام إلى ذکر مثل هذه العبارات مع اختلاف طفیف فی الخطب الأخرى، کالذی ورد فی الخطبة 29 و 97 حیث قال فی الأولى: «أَیُّهَا النَّاس، الُْمجْتَمِعَةُ أَبْدَانُهُمْ، والُْمخْتَلِفَةُ أَهْوَاؤُهُمْ».
وقال فی الثانیة: «أَیُّهَا الْقَوْمُ الشَّاهِدَةُ أَبْدَانُهُمْ، الْغَائِبَةُ عَنْهُمْ عُقُولُهُمْ، الُْمخْتَلِفَةُ أَهْوَاؤُهُمْ».
ثم قال (علیه السلام): «أَظْأَرُکُمْ(1) عَلَى الْحَقِّ وَأَنْتُمْ تَنْفِرُونَ عَنْهُ نُفُورَ الْمِعْزَى(2) مِنْ وَعْوَعَةِ(3)الاَْسَدِ!»، العبارة «أظأرکم» بالنظر إلى أنّ «ظأر» جاءت فی اللغة بمعنى القابلة، فهى تشیر إلى مراده أنّی کالقابلة الشفیقة قد رویتکم على الدوام من عین الحق الجیاشة، لکنّکم کنتم تفرون من ذلک دائماً، تفرون فرارکم من الأسد، وهذه أسوأ حالة یمکن أن تعرض لإنسان فینفر من الحق ویهرب منه بالشکل الذی یفوق التصور، والعبارة «وَعْوَعَةِ الاَْسَدِ!»، تعبیر رائع فلم یقل «من الأسد» بل قال «وَعْوَعَةِ الاَْسَدِ!» یعنی إنّ هذا الحیوان على درجة من الجبن بحیث لا ینظر إلى أطرافه لیرى هل هو أسد أم لا، بل یهرب لمجرّد سماعه الصوت، وهذا هو حال بعض الحیوانات التی تهرب إذا سمعت زئیر الأسد مهما کانت المسافة بعیدة فی الصحراء.
ثم قال (علیه السلام): «هَیْهَاتَ أَنْ أَطْلَعَ(4) بِکُمْ سَرَارَ(5) الْعَدْلِ، أَوْ أُقِیمَ اعْوِجَاجَ الْحَقِّ».
قطعاً لیس للحق من إعوجاج لیراد قیامه، والمراد یخلطونه بالباطل وقد سعى أئمة الهدى(علیهم السلام) لتخلیص الحق من شوائب الباطل، کما لیس فی العدل من ظلمة لیجلوها عنه، فالظلم الذی غالباً ما یخالط العدل ویلبسه على حال لا شک أنّ إزالة الظلمة عن العدالة وتمییز الباطل عن الحق، یتطلب أعواناً وأنصاراً من أهل الوعی والتضحیة، ولم یکن للجهال والغدرة المشتتین کأهل الکوفة من قدرة للإستعانة بهم فی إزالة الظلمات وتسویة الاعوجاجات، وهذا داء دوی عرض لإمام عادل وشجاع کعلی بن أبی طالب (علیه السلام).