یعالج هذا الکلام من الخطبة قضیة مهمّة وهى قبح البدع، وعلى ضوء عدم الإرتباط الواضح بین هذا القسم والذی سبقه فالذی یبدوا أنّ بین هذین القسمین أقسام حذفها المرحوم السید الرضی (رضی الله عنه)، ولابدّ من تغیر مفردة البدعة على أساس اللغة والشرع لیتضح لدینا مضمون هذا القسم من الخطبة: فالبدعة لغویاً تعنی کل تجدد والذی یمکنه أن یکون حسناً أو سیئاً، حسب ما صرّح به أرباب اللغة: «البدعة إنشاء أمر على غیر مثال سابق».
أمّا المعنى السائد بین الفقهاء العلماء ـ کما ذکرنا ذلک فی شرح الخطبة السابعة عشرة ـ إدخال شیء فی الدین أو إخراجه دون قیام دلیل معتبر على ذلک، ولما کانت تعالیم الإسلام وأحکامه خالدة ونازلة عن طریق الوحی فکل بدعة کبیرة، وإلیها تعود کل فرقة واختلاف أصاب الاُمة الإسلامیة، نعود الآن إلى شرح کلام الإمام (علیه السلام) فقد قال: «وَمَا أُحْدِثَتْ بِدْعَةٌ إِلاَّ تُرِکَ بِهَا سُنَّةٌ».
ثم نصح باجتناب البدع وضرورة السیر على النهج المستقیم فقال (علیه السلام): «فَاتَّقُوا الْبِدَعَ وَالْزَمُوا الْمَهْیَعَ(1). إِنَّ عَوَازِمَ(2) الاُْمُورِ أَفْضَلُهَا، وَإِنَّ مُحْدَثَاتِهَ(3) شِرَارُهَا».
فقد اتضحت حقیقة ما قیل فی هذه العبارة فی کیفیة ترک سنّة حین ظهور بدعة، وکیف تکون البدعة شرّ الاُمور، لأنّه لو سمح للأفراد أن ینقصوا من الدین شیئاً أو یضیفوا له شیئاً على ضوء ذوقهم وفکرهم القاصر، لما بقی من أحکام الدین وتعالیمه شیئاً خلال مدّة وجیزة ولإنقلب کل شیء رأساً على عقب، وفقد اعتباره وأصالته، ولإستبدلت التعالیم الأصلیة للدین بسلسلة من الأفکار المنحرفة والواهیة ولحل السراب محل العین الزلال، طبعاً إن کان التجدد ولید البحث والتحقیق والدقیق فی أدلة أحکام الشرع وکشف حقائق حدیثة من خلال الکتاب والسنّة والدلیل القاطع للعقل، فلیس هذا من البدعة فی شیء فحسب، بل سیکون سبب رفعة الدین وإزدهاره.
وبعبارة أخرى: فانّ الکشف شیء جدید، أمّا المکشوف فهو موجود سابقاً فی الدین، أمّا إن کان الذوق الشخصی والاستحسان الظنی هو دعامة وأساس التجدد فلیس له من نتائج سوى الظلال ومسخ الصورة الحقیقیة الناصعة للدین ویتضح ممّا مرّ معنا عدم صواب ما أورده شرّاح نهج البلاغة للعبارة المذکورة من أن کلّ بدعة خلاف لسنّة النبی الأکرم (صلى الله علیه وآله)الذی حرم البدعة، وعلیه فالسنّة تترک بظهور البدعة، بل المراد أنّ لکل موضوعه فی الإسلام حکم، وکل بدعة تعارض ذلک الحکم، إذن فبظهور البدع تترک الأحکام الأصلیة للدین ـ کما تبیّن جسامة خطأ ما أورده بعض شرّاح نهج البلاغة مثل ابن أبی الحدید الذی قسم البدع إلى حسنة وسیئة، فاعتبر مثلاً صلاة التراویح (تلک الصلاة المتسحبة التی کان یصلیها الناس فرادا على عهد رسول الله (صلى الله علیه وآله) فی لیالی رمضان وقد ابتدع عمر أن تصلى جماعة) من البدع الحسنة، وذلک لأنّه بهذه البدعة ترک سنّة، وترک سنّة استحباب الإفراد فی الصلاة المستحبة، وعلیه فلیس لدینا بدعة حسنة، وإن أقررنا البدعة الحسنة کان ذلک الإقرار بأنّ السنّة قد تکون حسنة وقد تکون سیئة، کما اتضح المعنى الذی أراده بعض العلماء للبدعة حین أجروا علیها الأحکام الخمسة من أن بعض البدع واجبة وبعضها محرمة، فانّما أرادوا المعنى اللغوی لا الشرعی باضافة أو طرح أشیاء من الدین وأحکامه ومن هنا ورد فی الحدیث عن النبی الأکرم(صلى الله علیه وآله) أنّه قال: «ألاّ وَکُلُّ بِدعَة ضَلالَةٌ، ألا وَکُلُّ ضَلالَة فِی النَّارِ»(4).
ومن أراد الوقوف على المزید بشأن البدعة فلیراجع المجلد الأول من هذا الکتاب ذیل الخطبة السابعة عشرة.