خاطب الإمام (علیه السلام) بادىء الأمر الأحنف بن قیس(1) وهو من أشراف قبیلته، فقال: «یَا أَحْنَفُ، کَأَنِّی بِهِ وَقَدْ سَارَ بِالْجَیْشِ الَّذِی لاَ یَکُونُ لَهُ غُبَارٌ وَلاَ لَجَبٌ(2)، وَلاَ قَعْقَعَةُ(3) لُجُم، وَلاَحَمْحَمَةُ(4) خَیْل. یُثِیرُونَ الاَْرْضَ بِأَقْدَامِهِمْ کَأَنَّهَا أَقْدَامُ النَّعَامِ(5)».
والإمام (علیه السلام) لم یذکر إسماً لزعیم الجیش، إلاّ أن القرائن الواردة فی هذه العبارات وما بعدها تشیر إلى أنّ المراد به صاحب الزنج الذی قام فی البصرة عام 255 هـ ق وجمع حوله العبید وقد خلق هناک فتنة عظیمة سنعرض لتفاصیلها فی البحث القادم إن شاء الله.
والعبارة: «لاَ یَکُونُ لَهُ غُبَارٌ» والعبارات القادمة تدلّ صراحة على أنّ جیش صاحب الزنج کان من المشاة، حیث لم یکن لهم من خیول لیرکبوها، طائفة من العراة المستضعفین الذین ساءت أحوالهم فقاموا على الأسیاد فارتکبوا الجرائم الفضیعة، والعبارة یثیرون الأرض بأقدامهم تدلّ على أنّهم کانوا حفاة وقد اتسعت أرجلهم بسبب المشی حفاة طیلة أعمارهم لتصبح کرجل الناقة، مع ذلک کانوا مخفین فی السیر والحرکة، وحین وصل هنا المرحوم السید الرضی(رضی الله عنه) قال: (قَالَ الشَّرِیفُ: یُومئ بذلک إلى صاحب الزنج).
ثم قال (علیه السلام): «وَیْلٌ لِسِکَکِکُمُ الْعَامِرَةِ، وَالدُّورِ الْمُزَخْرَفَةِ الَّتِی لَهَا أَجْنِحَةٌ کَأَجْنِحَةِ النُّسُورِ، وَخَرَاطِیمُ کَخَرَاطِیمِ الْفِیَلَةِ، مِنْ أُولئِکَ الَّذِینَ لاَ یُنْدَبُ قَتِیلُهُمْ، وَلاَ یُفْقَدُ غَائِبُهُمْ».
والذی یستفاد من هذه العبارة أنّ البصرة کانت عامرة (وإن عاش العبید منتهى الشقاء والعسر) فقد کانت بیوتهم کالقصور مزودة بالشرفات والظلال الجمیلة وخراطیم المیاه التی تزیدها روعة وجمالاً، وکما سیأتی فانّ کل ذلک قد تحطم إثر قیام صاحب الزنج وقد ضرّج أصحاب القصور بدمائهم، والعبارة «لاَ یُنْدَبُ قَتِیلُهُمْ، وَلاَ یُفْقَدُ غَائِبُهُمْ».
تشیر إلى أنّ العبید لم یکونوا ذوی زوجات وأولاد، بل کانوا عزّاباً فلا نادیة لهم من الأقرباء لیبحثوا عنهم ویتفقدونهم ویبکون علیهم، وهذه هى صفات العبید فی ذلک الزمان حیث کانوا یجلبون إلى البلاد الإسلامیة وغیر الإسلامیة بالقهر والغلبة من البلدان البعیدة خاصّة أفریقیا، وخلافاً للتعالیم الإسلامیة فقد کانوا یعاملون کالحیوانات، فکان قیام صالحب الزنج ردّ فعل تجاه المعاملة غیر الإسلامیة والإنسانیة، ثم قال آخر کلامه: «أَنَا کَابُّ(6)الدُّنْیَا لِوَجْهِهَا، وَقَادِرُهَا بِقَدْرِهَا، وَنَاظِرُهَا بِعَیْنِهَا».
فهذه العبارات الثلاث إشارة إلى تفاهة متاع الدنیا لدى الإمام (علیه السلام) وکأنّ الدنیا موجود حی شریر لا قیمة له وقد کبّه الإمام (علیه السلام) على وجهه وهو ینظر إلیه بحقارة، وتشبه هذه العبارة ما ورد عن الإمام (علیه السلام) فی قصار کلماته حیث قال: «یَا دُنْیَا یَا دُنْیَا، إِلَیْکِ عَنِّی أَبِی تَعَرَّضتِ؟ أَمْ إِلَیَّ تَشَوَّقْتِ؟ لاَحَانَ حِینُکِ، هَیْهَاتَ! غُرِّی غَیْرِی، لاَ حَاجَةَ لی فِیکَ، قَدْ طَلَّقْتُکِ ثَلاَثاً لاَ رَجْعَةَ فِیهَا!»(7).
ولعل شقاء أهل الدنیا المتکالبین علیها إنّما یعود إلى تقییمهم الباطل للدنیا فهم یرونها بعین أخرى فیعظمونها ویرکعون لها ویضحون بالغالی والنفیس من أجلها، أمّا ما هو الإرتباط بین هذه العبارة والعبارات السابقة بشأن أخطار صاحب الزنج، فیبدو أنّ شرّاح نهج البلاغة لم یخوضوا فی توضیح هذا الأمر، وربّما کان الإرتباط من خلال ذلک الظرف العصیب الذی أصاب أهل البصرة بسبب حبّ الدنیا، فقد شیّدوا القصور واهتموا بالدور وعاشوا الاسراف والتبذیر فی حیاتهم، فی حین عانى غالبیة العبید فی مدنهم ومزارعهم الأمرّین فسامهم الزنوج أنواع العذاب.