کشف الإمام (علیه السلام) فی القسم الأول من هذه الخطبة النقاب عن حقیقة فی عدم وجود دافع شرعی لطلحة والزبیر ـ اللذان أثارا معرکة الجمل ـ ولیس لهما من همّ سوى الدنیا والاستیلاء على الحکومة، ومن هنا فانّ تحقق لهما ما یریدان سعى کل منهما لإزالة الآخر لینفرد بالحکومة فقال: «کُلُّ وَاحِد مِنْهُمَا یَرْجُو الاَْمْرَ لَهُ، وَیَعْطِفُهُ عَلَیْهِ، دُونَ صَاحِبِهِ».
ثم استدلّ (علیه السلام) على ذلک بالقول: «لاَ یَمُتَّانِ(1) إِلَى اللّهِ بِحَبْل، وَلاَیَمُدَّانِ إِلَیْهِ بِسَبَب. کُلُّ وَاحِد مِنْهُمَا حَامِلُ ضَبٍّ(2) لِصَاحِبِهِ، وَعَمَّا قَلِیل یُکْشَفُ قِنَاعُهُ بِهِ!»، والضبّ هوالحیوان المعروف، وتعتقد العرب بأنّه خال من العاطفة إلى جانب حماقته حتى أنّه لیأکل فراخه ومن هنا ضرب به المثل فی العقوق، وقد استشهد الإمام (علیه السلام) بذلک المثل فی قوله: «حَامِلُ ضَبٍّ لِصَاحِبِهِ»، فهى عبارة غایة فی الروعة لمدى العداوة والبغضاء التی یخفیها کل منهما لصاحبه.
ثم قال (علیه السلام): «وَاللّهِ لَئِنْ أَصَابُوا الَّذِی یُرِیدُونَ لَیَنْتَزِعَنَّ هذَا نَفْسَ هذَا، وَلَیَأْتِیَنَّ هذَا عَلَى هذَا»، والطریف أنّ ما أورده الإمام (علیه السلام) فی العبارة السابقة بشأن طلحة والزبیر یصدق على جمیع الأفراد الذین یتحدون من أجل نیل السلطة دون أن یکون لهم أی دافع إلهی، فهم متحدون ومتفقون مادامهم لم ینتصروا، فبمجرّد الانتصار یسعى کل واحد منهم للقضاء على الآخر والتفرد بالسلطة، وشواهد ذلک کثیرة على مرّ العصور وفی کل زمان ومکان، والحال لو کانت الدوافع إلهیّة لدام الإتحاد وربّما اقترح کل السلطة على غیره، وقد إتضحت حقیقة کلام الإمام (علیه السلام) بشأن طلحة والزبیر حتى قبل شروع معرکة الجمل وتنازعهما على الزعامة، وهذا ما سنتناوله إن شاء الله فی البحث القادم، ولما کانت هذه الخطبة قبل معرکة الجمل فقد دعى الإمام الناس إلى الوقوف بوجه ناقضی العهد الذین حملوا رایات معرکة الجمل فقال: «قَدْ قَامَتِ الْفِئَةُ الْبَاغِیَةُ، فَأَیْنَ الُْمحْتَسِبُونَ(3)! فَقَدْ سُنَّتْ لَهُمُ السُّنَنُ، وَقُدِّمَ لَهُمُ الْخَبَرُ».
والعبارة الفئة الباغیة إشارة إلى کل جماعة تقوم بوجه الحق وحکومة العدل، کما یصدق هذا الکلام على أصحاب الجمل، وعلى أعوان معاویة أیضاً، لأنّهم وقفوا جمیعاً ضد الحق، ومن هنا جاء فی الحدیث النبی الأکرم(صلى الله علیه وآله) لعمّار الذی استشهد فی صفین وقتله أعوان معاویة: «یَا عَمّارُ تَقتُلُکَ الفِئَةُ البَاغِیةُ»(4).
والمفردة «المحتسبون» إشارة إلى الأفراد الذین یجاهدون حسبة لله ولا ینتظرون سوى ثوابه وأجره.
والعبارة «فَقَدْ سُنَّتْ لَهُمُ السُّنَنُ...»، إشارة إلى أنّ سنن النبی الأکرم (صلى الله علیه وآله) قد عرضت السبل اللازمة للقیام ضد البغاة والعصاة.
العبارة: «وَقُدِّمَ لَهُمُ الْخَبَرُ»، إشارة إلى حدیث النبی الأکرم (صلى الله علیه وآله) لصحبه: «تُقاتِلُونَ النّاکِثِینَ والقَاسِطِینَ والمَارِقِینَ»(5)، بناءاً على هذا وبالنظر إلى اتضاح الضلال بالنسبة لتلک الفئة واتضاح سنن النبی الأکرم (صلى الله علیه وآله) تجاه مثل هؤلاءالأفراد والنبوءة السریعة التی طرحها النبی الأکرم (صلى الله علیه وآله) فلم یبق هنالک من مجال للإبهام ولابدّ لکل مؤمن مخلص أن یقف فی وجه الباطل.
ثم قال الإمام (علیه السلام): «وَلِکُلِّ ضَلَّة عِلَّةٌ، وَلِکُلِّ نَاکِث شُبْهَةٌ»، قطعاً لم یرد الإمام (علیه السلام) بها الکلام توجیه الأعمال القبیحة والطائشة لطلحة والزبیر، بل یریدالإشارة إلى هذه الحقیقة إلى أن الظلال لیس عبثیاً، وعادة ما تکون علّته اختیاریة، فالعلّة الأصلیة لأغلب الظلال تتمثل فی هوى النفس وحبّ الدنیا والجاه والاستبداد والکبر والغرور والحسد، وهذا المعنى واضح تماماً بالنسبة لطلحة والزبیر.
والعبارة: «وَلِکُلِّ نَاکِث شُبْهَةٌ»، إشارة إلى أنّ کل ناکث لعهد عادة ما یخلق لنفسه ذریعة لیخدع العوام ویجرهم إلیه، کما تذرع طلحة والزبیر بدم عثمان على أنّه الخلیقة الذی قتل مظلوماً، فیثیروا طائفة من العوام ضد علی (علیه السلام) فیتمکنا من تحقیق أهدافهما المغرضة، بینما کانا من العناصر التی قتلت عثمان، کما مرّ معنا فی الخطبة 137 خیث قال الإمام بشأن طلحة والزبیر ومعاویة: «وَإِنَّهُمْ لَیَطْلُبُونَ حَقّاً هُمْ تَرَکُوهُ، وَدَماً هُمْ سَفَکُوهُ».
والعبارة «ناکث» إشارة إلى طلحة والزبیر حیث بایعا علیاً (علیه السلام) فی البدایة ثم نقضوا البیعة.
ثم إختتم الإمام الخطبة بالإشارة إلى نقطة مهمّة وهى المراقبة وعدم الغفلة عن العدو فقال: «وَاللّهِ لاَ أَکُونُ کَمُسْتَمِعِ اللَّدْمِ(6)، یَسْمَعُ النَّاعِیَ وَیَحْضُرُ الْبَاکِیَ، ثُمَّ لاَ یَعْتَبِرُ!»، إشارة إلى أنّ الزعیم الیقظ لا یسمع أنین المظلومین وتعبئة قوى الشیاطین، وقد مضى شبیه هذا المعنى فی الخطبة السادسة: «وَاللّهِ لاَ أَکُونُ کالضَّبُعِ: تَنَامُ عَلَى طُولِ اللَّدْمِ، حَتَّى یَصِلَ إِلَیْها طَالِبُهَا، وَیَخْتِلَهَا رَاصِدُها، وَلکِنِّی أضْرِبُ بِالْمُقْبِلِ إِلَى الْحَقِّ الْمُدْبِرَ عَنْهُ».