طرح الإمام (علیه السلام) فی هذا المقطع من الخطبة طلبه وصحبه الرئیسی والذی یتمثل بنزول المطر المبارک فسأل الله سبحانه وتعالى مطراً ذات عشرین صفة تشیر کل واحدة منها إلى قضیة رائعة، وما أورع أن یذکر الإمام کل هذه الأوصاف للمطر المطلوب، وهى الأوصاف التی تجعل الإنسان یتواضع ویشعر بالخضوع أمام عظمة الخلاق، کما تفهم السامع عمق الآثار والبرکات التی تختزنها هذه القطرات من المطر: «اللَّهُمَّ سُقْیَا مِنْکَ مُحْیِیَةً مُرْوِیَةً، تَامَّةً عَامَّةً، طَیِّبَةً مُبَارَکَةً، هَنِیئَةً مَرِیعَةً(1). زَاکیاً نَبْتُهَا، ثَامِر(2) فَرْعُهَا، نَاضِر(3) وَرَقُهَا، تُنْعِشُ(4) بِهَا الضَّعِیفَ مِنْ عِبَادِکَ، وَتُحْیِی بِهَا الْمَیِّتَ مِنْ بِلادِکَ!».
الواقع هو أنّ الإمام (علیه السلام) سأل الله تعالى مطرا تتوفر فیه الشرائط وبعیداً عن کل الموانع، فقد لوحظ فی أغلب الأحیان نزول الأمطار على شکل سیول، لکنّها تحطم کل شیء تأتی علیه، أو إنّها تترکز فی نقطة معینة لیست لها منفعة عامة، أو أنّها مصحوبة ببرد شدید قارس لا تخفى آثاره السلبیة، أو یکون مصحوباً ببعض الموانع من قبیل الریاح الحارة والعواصف الشدیدة والآفات التی تصیب النباتات کالجراد والحشرات المؤذیة وأمثال ذلک التی تقضی على أثار الأمطار، فالإمام (علیه السلام) یأخذ جمیع هذه الأمور بنظر الاعتبار فیسأل الله تعالى اجتماع کافة الشرائط ودفع جمیع الموانع.
ثم واصل الإمام (علیه السلام) الدعاء بذکر سبعة أوصاف أخرى لیکتمل عدد الصفات عشرین صفة فقال: «اللَّهُمَّ سُقْیَا مِنْکَ تُعْشِبُ بِهَا نِجَادُن(5)، وَتَجْرِی بِهَا وِهَادُنَ(6) وَیُخْصِبُ(7) بِهَا جَنَابُنَ(8)، وَتُقْبِلُ بِهَا ثِمارُنَا، وَتَعِیشُ بِهَا مَوَاشِینا، وَتَنْدَى(9) بِهَا أَقَاصِینَ(10)، وَتَسْتَعِینُ بِهَا ضَوَاحِینَ(11). مِنْ بَرَکاتِکَ الْوَاسِعَةِ، وَعَطَایَاکَ الْجَزِیَلَةِ عَلَى بَرِیَّتِکَ الْمُرْمِلَةِ(12)، وَوَحْشِکَ الْمُهْمَلَةِ».
فقد کشف الإمام (علیه السلام) النقاب بهذا الدعاء عن سعة صدره وعمق نظره وعمومیة شفقته ورحمته، ذلک لأنّه أخذ بنطر الاعتبار المناطق القاصیة والدانیة ولم یهمل الدواب حتى حیوانات الصحراء الوحشیة، فدعاءه یشمل الجمیع وسؤاله یهدف حاجة الجمیع وهذا هو معنى لطف إمام المسلمین ورحمته العامّة.
وأضاف الإمام (علیه السلام) فی معرض مواصلة لطلب الماء ونزول المطر الذی یفیض بالخیر والبرکة قائلاً: «وَأَنْزِلْ عَلَیْنَا سَمَاءً مُخْضِلَةً(13)، مِدْرَاراً هَاطِلَةً(14)، یُدَافِعُ الْوَدْقُ مِنْهَا الْوَدْقَ(15)، وَیَحْفِزُ(16) الْقَطْرُ مِنْهَا الْقَطْرَ».
کما واصل (علیه السلام) وصف الأمطار: «غَیْرَ خُلَّب(17) بَرْقُهَا، وَلاَ جَهَام(18) عَارِضُهَا، وَلاَ قَزَع(19)رَبَابُهَ(20)، وَلاَ شَفَّان(21) ذِهَابُهَ(22)».
ثم واصل الإمام (علیه السلام) الدعاء قائلاً: «حَتَّى یُخْصِبَ لاِِمْرَاعِهَ(23) الُْمجْدِبُونَ(24)، وَیَحْیَا بِبَرَکَتِهَا الْمُسْنِتُونَ(25)، فَإِنَّکَ تُنْزِلُ الْغَیْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا، وَتَنْشُرُ رَحْمَتَکَ وَأَنْتَ الْوَلِیُّ الْحَمِیدُ(26)».
فقد بیّن الإمام فی هذه العبارة تسع أوصاف أخرى للأمطار المفیدة النافعة ذات الخیر والبرکة، حیث یبلغ عدد الصفات مع ذکر سابقاً 29 صفة، حقّاً إنّه لمن دواعی العجب والدهشة أن یستسقی الإمام (علیه السلام) ویوصف المطر بتسع وعشرین صفة بینما یصف ذلک الطالبون عادة بصفة، أو صفتین فیبتهلون إلى الله سبحانه وتعالى أن أسقنا الغیث المبارک، ومن هنا لا یشعر الإنسان سوى بالحیرة والذهول حین یتأمل عبارات أمیر المؤمنین علی(علیه السلام)، لقد استفرغ الإمام أقصى فصاحته وبلاغته فی هذه الخطبة وشرح طلبه إلى الله تعالى بما یعرّف الناس بلطف الله تعالى وفضله ورحمته ویفهمهم أنّ مسار النعمة ملیىء بکثیر من الموانع بحیث لا یسعهم بلوغ الکمال المنشود ما لم تشملهم رعایة الله ورحمته، والحق یتعذر مثل هذا المنطق على من لم یکن مؤیداً من عند الله ویؤید بروح القدس.