استعمل الإمام (علیه السلام) عبارات بلیغة رائعة فی هذا المقطع من الخطبة لیکشف النقاب عن فساد الزمان والتولی عن الصالحات والاقبال على السیئات فقال: «أَیْنَ أَخْیَارُکُمْ وَصُلَحَاؤُکُمْ! وَأَیْنَ أَحْرَارُکُمْ وَسُمَحَاؤُکُمْ!(1) وَأَیْنَ الْمُتَوَرِّعُونَ(2) فِی مَکَاسِبِهِمْ، وَالْمُتَنَزِّهُونَ فِی مَذَاهِبِهِمْ!».
فقد بحث الإمام (علیه السلام) بهذه العبارات عن ستة طوائف فی المجتمع لیدل فقد انها أنذاک على مدى الانحطاط والفساد، والطوائف الست هى: الأخیار، الصالحون، الأحرار، السمحاء، المتورعون، والمتنزهون، حقّاً إنّ افتقرت المجتمعات البشریة إلى هذه الطوائف الشریفة والنجیبة فی المجتمع، فلیس هناک سوى الفساد والانحراف، والمراد من المتورعین فی مکاسبهم، الأفراد الذین لا یطففون فی البیع ولا یغشون ولا یکذبون ولا یقسمون بالباطل ولا یرابون والذین ینقضون عهودهم ومواثیقهم، فمن یرى المجتمع الصالح العامر بالأخیار والصلحاء والأحرار والسمحاء على أنّهم نماذج المجتمع إنّما یشعر بالامتعاظ لا سیّما إن رأى بدلاً منهم الأشرار والطلحاء والأسرى والبخلاء فلا یمتلک سوى الصراخ: این اُولئک الأعزة؟ کیف خلى مکانهم؟
ثم قال الإمام (علیه السلام): «أَلَیْسَ قَدْ ظَعَنُو(3) جَمِیعاً عَنْ هذِهِ الدُّنْیَا الدَّنِیَّةِ، وَالْعَاجِلَةِ الْمُنَغِّصَةِ(4)».
فأردفها (علیه السلام) بالقول: «وَهَلْ خُلِقْتُمْ(5) إِلاَّ فِی حُثَالَة(6) لاَ تَلْتَقِی بِذَمِّهِمُ الشَّفَتَانِ، اسْتِصْغَاراً لِقَدْرِهِمْ، وَذَهَاباً عَنْ ذِکْرِهِمْ! فـَ(إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَیْهِ رَاجِعُونَ)».
وقد انبثقت هذه الظروف العصیبة والأفراد المنحطین منذ انحراف الخلافة الإسلامیة عن محورها الأصلی وقد بلغ الأمر ذروته على عهد عثمان، فقد فوضت المواقع الحساسة من الحکومة الإسلامیة إلى أصحاب الدنیا البعیدین عن الورع والتقوى وقد تغلغلوا فی المجتمع الإسلامی بحیث کان من المتعذر تغییرهم ابان حکومة علی (علیه السلام)، کما کان هؤلاء الأفراد هم السبب لکافة المعارک التی حدثت ضد الإمام (علیه السلام).
ثم أشار الإمام (علیه السلام) إلى الوظیفة التی ینبغی أن یقوم بها أصحابه تجاه تلک الظروف والأوضاع فقال: «ظَهَرَ الْفَسَادُ، فَلاَ مُنْکِرٌ مُغَیِّرٌ، وَلاَ زَاجِرٌ مُزْدَجِرٌ. أَفَبِهذَا تُرِیدُونَ أَنْ تُجَاوِرُوا اللّهَ فِی دَارِ قُدْسِهِ، وَتَکُونُوا أَعَزَّ أَوْلِیَائِهِ عِنْدَهُ؟».
طبعاً إنّ هذا الاستفهام إستفهام استنکاری، والمراد على ضوء هذا الوضع الذی سلکتموه وقد سکتم إزاء الفساد أو أعنتم علیه، فلا من أمر بمعروف ولا نهی عن منکر، فلیس لکم أن تنالوا القرب الإلهی وتکونوا فی صفوف أولیاء الله، فأکد ذلک بالقول: «هَیْهَاتَ! لاَ یُخْدَعُ اللّهُ عَنْ جَنَّتِهِ، وَلاَ تُنَالُ مَرْضَاتُهُ إِلاَّ بِطَاعَتِهِ».
فاُولئک المسلمون ظاهراً ویحسبون فی صفوف أهل الإیمان لکنّهم راضون بالفساد ساکتون باطناً، لا یقدرون على خداع الله العالم بأسرارهم وأعمالهم، لعلم یخدعون الآخرین، بل وأنفسهم لمدّة، ولکن أنى لهم ذلک یوم القیامة یوم لا یخفى على الله منهم خافیة، فلیس أمامهم سوى الندم.
ورد فی الحدیث عن النبی الأکرم (صلى الله علیه وآله) أنّه قال: «لَیسَ الإیمـانُ بِالتَّحلّی وَلا بِالَّتمنِّی وِلَکن الإِیمـانَ ما خَلصَ فِی القَلبِ وَصَدَّقَهُ الأَعمـالُ»(7).
ثم إختتم الخطبة مشدداً فی التأکید فقال: «لَعَنَ اللّهُ الاْمِرِینَ بِالْمَعْرُوفِ التَّارِکِینَ لَهُ، وَالنَّاهِینَ عَنِ الْمُنْکَرِ الْعَامِلِینَ بِهِ!».
صحیح أنّ عمل الإنسان لا یشترط فی الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر، وبعبارة أخرى فانّ الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر وظیفتان مستقلتان وإن کان نفس الإنسان تارکاً للمعروف وعاملاً بالمنکر.
کما ورد عن رسول الله (صلى الله علیه وآله): «مُروا بِالمَعرُوفِ وَإن لَم تَفعَلوهُ وَانهُوا عن المُنکَرِ وإن لَم تَجتَنِبُوا کُلَّهُ»(8).
ولکن أن یأمر الإنسان بالمعروف ولا یأتمر به وینهى عن المنکر ولا ینتهی عنه بحدّ ذاته نوع من النفاق الواضح، والمنافق یستحق اللعن واللوم والعقاب.
وبعبارة أخرى فانّ اختلاف الظاهر والباطن الذی یکون سبباً لخداع الناس وروح النفاق من أسوأ الصفات التی یحعل الإنسان یستحق اللعن فیوجب بُعده عن الله ورحمته.