خاض الإمام(علیه السلام) فی هذا القسم من الخطبة فی خلق الملائکة ومختلف المسؤولیات والوظائف التی یقومون بها، بعبارات تبطل فصاحة العرب وتجعل نسبة التراب إلى النضار الخالص کما صرح بذلک ابن أبی الحدید. فقال(علیه السلام): «ثم خلق سبحانه السکان سمواته، وعمارة الصفیح(1) الاعلى من ملکوته، خلقا بدیعا من ملائکة، وملأ بهم فروج فجاجها، وحشابهم فتوق(2) أجوائه(3)». یمکن ان تکون (ثم) إشارة إلى خلق الملائکة بعد خلق الأرض وما علیها من کائنات، کما یمکن أن تکون وردت للتأخیر فی البیان لا الزمان. ویبدو الاحتمال
الأخیر أنسب بالالتفات إلى الروایات التی صرحت بخلق السموات قبل خلق الکائنات الأرضیة إلى جانب ما جاء فی الخطبة الاولى من نهج البلاغة التی مرّ شرحها. ثم صرح(علیه السلام)أنّ أصوت المسبحین قد ملأت أقطار السماء ودوت فی حظائر القدس وسترات حجب العظمة: «وبین فجوات(4) تلک الفروج زجل(5) المسجین منهم فی حظائر(6) القدس، وسترات الحجب، وسرادقات(7) المجد». إلاّ ان هذا لا یعنى ان الملائکة المقربین استطاعوا أن یبلغوا أوج معرفة سبحانه، ومن هنا أتبع الإمام(علیه السلام) ذلک بقوله أنّ وراء تلک الصیحات والتسبیحات، سبحات النور التی تردع الأبصار وتوقفها عند حدها «ووراء ذلک الرجیح(8) الذی تستک(9) منه الأسماع سبحات(10) نور تردع الأبصار عن بلوغها، فتقف خاسئة(11) على حدودها».
طبعا لا تعنى هذه العبارة أنّ للّه سبحانه وتعالى موضع فی السموات وقد أحیط من کل جانب بطبقات من الأنوار الشدیدة، بل المراد أنّ هناک مراکز مقدسة فی عالم الوجود تعجز عن مشاهدتها حتى الملائکة. کما یمکن ان یکون المراد من هذه العبارة أنّ ملائکة ورغم قربها من اللّه وغرقها فی العبادة والتسبیح، إلاّ أنّها عاجزة عن إدراک کنه ذاته وصفاته سبحانه، ولیس لها من نصیب سوى على قدر إدراکها.
بعبارة اُخرى لوحملنا هذه العبارات وفسرناها على أساس ظاهرها فانّها تفید أنّ فی السماء مواضع تتمتع بقدسیة خاصة وهالة من النور (وهو المعنى الذی أشارت إلیه بعض الروایات والأخبار)(12).
وعلى غرار ذلک فهناک على الأرض بعض المراکز التی تحظى بحرمة وقدسیة تفوق غیرها کالکعبة وبیت المقدس، دون ان تکون موضعا لذاته المقدسة سبحانه. وان حملناها على المعنى الکنائى، فانّها ستکون دلیلاً على أن للملائکة حداً لاتتجاوزه رغم قربها و عبادتها و عبادتهم.