إختتم الإمام(علیه السلام) الخطبة بالأخبار عن بعض الحوادث المستقبلیة الحلوة والمریرة، حیث یلفت النظر إلى أنّ أهل البیت(علیهم السلام)بمنجاة من هذه الفتنة وأنّهم لیسوا دعاة حکومة آنذاک: «نحن أهل البیت منها بمنجاة(1)، ولسنا فیها بدعاة».
یبدو أنّ هناک إختلاف بین شرّاح نهج البلاغة فی تفسیر هذه العبارة، لأن الفتنة من حیث العینیة الخارجیة قد شملت أهل البیت، ونموذج ذلک شهادة الإمام الحسین(علیه السلام) وصحبه الکرام. وعلیه فنجاة أهل البیت من تلک الفتنة بمعنى عدم مسؤولیتهم فی هذه الفتنة، وتقع مسؤولیتها على الاُمّة التی ولت ظهورها عن أهل البیت والتحقت بسلیلی الکفر والشرک والجاهلیة. والعبارة «ولسنا فیها بدعاة» قرینة على هذا المعنى، لأنّ أهل البیت حین اجبروا على السکوت ولم تندفع الاُمّة خلفهم، بات من الطبیعی عدم تحملهم لأیة مسؤولیة. ثم بشرهم الإمام(علیه السلام)بعدم استمرار هذه الفتنة وأنّ الله سیکشفها عن الاُمّة کما یکشف الجلد عن اللحم: «ثم یفرجه(2) الله عنکم کتفریج الأدیم.»(3) فهذا التشبیه یشیر إلى اخماد فتنة أمیة بصورة تامة فی ذلک الزمان، لأن الجلد حین یفصل عن اللحم لاتبقى ذرة منه على اللحم بحیث یتغیر شکل الحیوان المذبوح تماماً.
والسؤال المطروح من الذی ینهی هذه الفتنة ویقضی على حکومة بنی أمیة وکیف؟
قال(علیه السلام): فی مواصلة کلامه بشکل عام «بمن یسومهم خسف(4)، ویسوقهم عنفاً، ویسقیهم بکأس مصبرة لایعطیهم إلاّ السیف، ولایحلسم(5) إلا الخوف».
العبارة «مصبرة» من مادة صبر على وزن خشن نبات شدید المرارة، إشارة إلى مرارة الحیاة التی سیعیشها بنی أمیة فی ظل حکومة بنی العباس، والعبارة «لایعطیهم...» تأکید لهذا المعنى فی ابتلاء بنی أمیة ببنی العباس، الذین یضعون السیف فی أعناقهم، ومن حالفه الحظ فی الهرب فلیس له إلاّ الخوف والرعب.
ثم قال(علیه السلام) آنذاک تود قریش (إشارة إلى طائفة من بنی أمیة) أن تعطی الدنیا وما فیها، لترانی مرة اُخرى (وتذعن لامرتی) ولو لمدة وجیزة بقدر ذبح الناقة، لأقبل منها ما تمنعنی الیوم بعضه: «فعند ذلک تود قریش بالدنیا وما فیها، لو یروننی مقاماً واحداً، ولو قدر جزر جزوّر(6)، لا قبل منهم ما أطلب الیوم بعضه فلایعطونیه» فالعبارات وان أشارت إلى تکهن الإمام(علیه السلام) بشأن زوال سلطة بنى أمیة على ید بنی العباس، إلاّ أنّ بعض شرّاح نهج البلاغة احتملوا أنّ هذه العبارات وردت بخصوص حکومة الإمام المهدى(علیه السلام) حیث سیؤدی.
إلى إجتثاث جذور الظلم والطغیان، إلاّ أنّ هذا الاحتمال ییدو بعیداً، وذلک لأنّه أولاً: سوف لن یکون بنی أمیة آنذالک طائفة خاصة. ثانیاً: لیس هنالک من مجال لأن یتمنوا حکومة الإمام علی(علیه السلام) حین ظهور الإمام المهدی(علیه السلام) وتطبیق کافة تعالیم السماء.
وبعبارة اُخرى: فانّ هذه الاُمنیة ستکون من قبیل تحصیل الحاصل. وهذا الکلام إخبار عن ظهور المسودة، وانقراض ملک بنی أمیة، ووقع الأمر بموجب إخباره(علیه السلام); حتى لقد صدق قوله: «لقد تود قریش...»، فانّ أرباب السیر کلهم نقلوا أنّ مروان بن محمد قال یوم الزاب لما شاهد عبدالله ابن علی بن عبدالله بن العباس بازائه فی صف خراسان: لوددت أنّ علی بن أبی طالب تحت هذه الرایة بدلاً من هذا الفتى; والقصة طویلة وهى مشهورة.(7)
والأعجب من ذلک حین ولى أبو العباس السفاح الخلافة ـ وهو أول خلیفة عباسیـ أمر بقتل کافة بنی أمیة، کما أمر بنبش قبورهم وأخراج الأموات منها واحراقها، ولم ینج منهم إلاّ من هرب إلى الأندلس ـ وقیل أنّ السفاح أمر بطرح موتى بنی أمیة أمام الکلاب لتنهش لحومهم.(8)
بل لقب أبوالعباس بالسفاح لکثرة قتله من بنی أمیة.(9)
ویتضح ممّا مر معنا أنّ الفرج الذی بشر به الإمام(علیه السلام) إنّما یقتصر على الفترة الممتدة بین حکومة بنی أمیة وبنی العباس، أو بعبارة اُخرى یرتبط بالمدة التی لم تقو فیها قدرة بنی العباس إلى الحد المطلوب، وذلک لأنهم حین توطدت دعائم حکومتهم وقویت شوکتهم، غاصوا فی هالة من الظلم والاضطهاد لیجعلوا المسلمین یعیشون فترة مظلمة اُخرى.