أشار الإمام(علیه السلام) فی هذا المقطع من الخطبة ـ بعد أن شرح کیفیة ظهور الأرض ـ إلى مسألة ظهور العیون والآثار المهمة للجبال فی استقرار الأرض ومن علیها، فتطرق إلى أهم أسباب الحیاة على الأرض وفی مقدمتها الماء والسکون والاستقرار فقال (علیه السلام): «فلما سکن هیج الماء من تحت أکنافها، وحمل شواهق(1) الجبال الشمخ(2) البذخ(3) على أکتافها، فجر ینابیع العیون من عرانین(4) أنوفها وفرقها فی سهوب(5) بیده(6) و أخادیده(7)» فالعبارة تفید أن اؤل ما ظهر على الأرض الجبال ثم تبعتها العیون;الأمر الذی أیدته أبحاث علم طبقات الأرض حیث تشققت القشرة الأرضیة فی البدایة إثر البرودة، فکان فی تلک الشقوق حفر عظیمة استوعبت الماء النازل من السماء ثم جرى بشکل عیون و ینابیع. والعبارة «عرانین أنوفها» التی تعنی ما صلب من عظم الانف، هى کنایة رائعة عن قمم الجبال، بل أن تشبیه نتوءات الجبال بالانف تشبیه رائع یدل على أنّ جوف الجبل لیس مملوءاً، بل فیها المزید من الأجزاء الخالیة بحیث تبدوا أحیاناً للعیان على هیئة غیران وکهوف ومصادر لادخار المیاه.
ثم اشار(علیه السلام) إلى سکون الأرض والسیطرة على حرکتها بالجبال، فقال: «وعدل حرکاتها بالراسیات(8) من جلامیده(9) وذوات الشناخیب(10) الشمّ(11) من صیاخیده(12)».
وهکذا سکنت حرکات الأرض بفعل نفوذ الجبال فی سطحها ورسوخها فی الأعماق واستقرارها على الفلاة فحالت دون اضطرابه: «فسکنت من المیدان(13) لرسوب الجبال فی قطع أدیمه(14) وتغلغه(15) متسربة(16) فی جوبات(17) خیاشیمه(18)، ورکوبها أعناق سهول الأرضین وجراثیمه(19)».
والحق أنّ ما أورده الإمام(علیه السلام) فی هذا المقطع من الخطبة هو ذات ما أثبته العلم الطبیعى; الأمر الّذى أشار إلیه القرآن الکریم فی أنّ الجبال بمثابة مسامیر الأرض: (وَالجِبالَ أَوْتاد)(20)، کما صرح القرآن قائلاً: (وَأَلْقى فِی الأَرْضِ رَواسِىَ أَنْ تَمِیدَ بِکُمْ)(21). طبعا هناک عدة فوائد اُخرى للجبال; ومنها خزن المیاه التی تخرج منها أحیاناً کعیون، وأحیاناً اُخرى على هیئة صقیع کثیر ذاب ماءاً فشکل الأنهار، ناهیک عن سائر فوائد التی ذکرناها فی شرح الخطبة الاولى فی المجلد الأول من هذا الکتاب. ثم أشار(علیه السلام)إلى اُمور مهمّة اُخرى لاعداد الأرض بغیة عیش الإنسان وممارسة حیاته علیها، فی أنّ الله جعل فاصلة بین الأرض والجو، وأعد الهواء والنسیم إلى جانب توفیر کافة ما یحتاج إلیه سکنة الأرض: «وفسح بین الجو وبینهما، وأعد الهواء متنسم(22) لساکنها، وأخرج إلیها أهلها على تمام مرافقه(23)»، فقد ضمنت هذه العبارة أشاره إلى الأرکان الأصلیة للحیاة ومعیشة الإنسان والحیوان، وفی مقدمتها الهواء، أو بعبارة اُخرى الاو کسجین الذی لایستغنی عنه الإنسان لبضع (دقائق حیث یموت إذا قطع عنه. إلاّ أنّ الحق سبحانه وتعالى خلقه بکمیة کافیة وفی جمیع الاماکن بحیث یحصل علیه الإنسان دون أدنى جهد أو تعب. کما یحصل علیه الجمیع على السواسیة غنیهم وفقیرهم وکبیرهم وصغیرهم وعجوزهم وفتاهم وعاجزهم وناشطهم. ثم أشار على نحو الاجمال إلى کل ما یلزم الإنسان والحیوان للمعیشه على الأرض بعبارة قصیرة أوجزها فی المفردة «المرافق». أمّا ما المراد بالجو فی العبارة الذی فصله الله عن الأرض، فقد قال البعض المراد به الفضاء، ولمالم یکن الفضاء جسما أو مادة فلا یبدو التعبیر با یجاد الفاصلة بینه وبین الأرض مناسبا. و یمکن أن یکون المراد بالجو الطبقات التی وراء الهواء، کطبقة الأوزون التی لایمکنها تلبیة الحاجة التنفسیة للإنسان لو کانت فاصلتها مع الأرض قلیلة، وکانت الطبقة الجویة رقیقة. أضف إلى ذلک فانها تدعو إلى اضطراب سائر شرائط حیاة الإنسان وکافة الأحیاء على الأرض.